وَالثَّالِثُ: أَن المُجتَهِدَ مُستدِل بِشَيء عَلَى شَيء، وَالدلِيلُ لَا بُد وَأن يَكُونَ مَوْجُودًا قَبلَ التأملِ فِيهِ وَقَبْلَ طَلَبِهِ، وَالدلِيلُ إذا كَانَ دَلِيلًا عَلَى الحُكْمِ، وَالْمَدْلُولُ سَابِقٌ عَلَى الدلِيلِ الذِي هُوَ سَابِق عَلَى التأملِ فِيهِ؛ فَيَكُونُ الحُكْمُ سَابِقًا عَلَى الاجْتِهَادِ؛ فَالْقَوْلُ بِأن الْحُكْمَ تَابعٌ للاجْتِهَادِ يُوجِبُ كَوْنَ المُتَقَدِّمِ مُتَأخرًا؛ وَهُوَ مُحَال.
===
في معرض المبالغة فِي نَقصِ الدينِ، فلو كان أكثَرَ مِنه، لم تكُن مبالغة. ثم قال: "وَلَا يَلزَمُهُ حفظهما -يعني: آيَ الأحكامِ والسنةِ- بل يكفيه أنْ يكُونَ عَالِما بمواقِعِهَا في الكتاب والسنة. ثم زعم أنه يَرجِعُ في التعدِيلِ والترجيح لأئمة الحديثِ، وهو مَحْضُ تقليد.
وجميعُ ما ذكرناه شرائطُ المُفتي المُطلَقِ، وهو المجتهدُ في الدينِ. ودونَهُ المجتهدُ في المَذهَبِ، وهو الذي له مُكنَةٌ بتخريجِ الوجُوهِ على نصوصِ إِمامِهِ؛ كابْنِ سُرَيج وأبي حامِد بالنسبة إِلَي مذهب الشافعي، ومُحَمدِ بْنِ الحَسَنِ وأبي يُوسُفَ بالنظَرِ إِلَي مذهب أبي حنيفةَ، وابن القاسِمِ وأَشهَبَ بالنسبَةِ إلى مذهب مالك. ودونه المُجتَهِدُ في الفَتوَى في مذهب خاص وهو الذي له مُكنَة في ترجيحِ بَعضِ الأقوالِ والأوجُهِ على بعضِ.
أَما المُجتَهدُ فيه، وَهُوَ مَحلُّ الاجتهادِ: فهو كُل حُكم شَرعي ليس فيه دليل قاطع؛ فتخرجُ منه العقلياتُ، وموانع الإِجماع وما عُلِمَ كَونُهُ من الشرعِ ضرورة. وانبنى على هذا أنه لَيسَ كُل مجتهد في العقلياتِ مصيبًا، وأن المخطئَ فيها مُخَالِف ملةَ الإِسلامِ؛ أعني فيما يرجع إِلَى العقائِدِ.