وَأَما إِنْ قُلْنَا: لَم يَحصُل فِي الوَاقِعَةِ حُكْم معيَن، فَهَلْ هُنَاكَ حُكْم، لَو قَدرْنَا أن اللَّه تَعَالى يَذكُرُ حُكمًا مُعَينًا، لَوَجَبَ أَنْ يَذكُرَهُ أم لَا؟ :

فَالأَولُ: مَذهَبُ مَن يَقُولُ: إِنهُ لَا حُكمَ فِي الوَاقِعَةِ إِلَّا أَنهُ حَصَلَ مَا هُوَ أَشبَهُ بِالصوَابِ عِندَ الله تعَالى.

[وَ] الثانِي: قَولُ مَنْ يَقُولُ: لَيسَ فِي الوَاقِعَةِ حُكْم أَصْلا، وَإِنمَا الحُكْمُ يَتْبَعُ الاجْتِهَادَ.

===

أَما الإجمالُ، فَهُوَ المستَقِل بمعظمِ أَحكامِ الشرعِ نصًّا وَاستنبَاطًا، وَأشَرنَا بـ "النص" إلى الكتابِ والسنةِ، وبـ "الاستنباط" إِلى الأقيسةِ والمعانِي.

وَأما مِن حَيثُ التفصيلُ: فَيُشتَرَك فيهِ العَقلُ، وَالبلوغُ، وَلَا يُشتَرَطُ فيهِ الذكورةُ وَالحريةُ، وَيحتاجُ بَعدَ العِلمِ بتصديقِ الله -تعالى- ورسولِهِ إِلى العِلم باللغةِ والنحو والتصريفِ، وَطريق البلاغةِ؛ فإن مأخَذ الشريعةِ أَلفاظ القرآنِ المُعجِزِ بِبلاغتِهِ وَنَظمِهِ وَأُسلُوبِهِ وَمَعناهُ، وَأَلفاظُ السنةِ؛ فَلا بُد مِن أَهليةِ الفهم للمعانِي المشعرةِ بِها والمُستودَعَةِ فِي سياقِها وَتَرتِيبِها وتَنزيلِها؛ على مَا لَا يخلُّ بفصاحَتِهَا، وَلَا يستقل بذَلك إلا مبرِّز فِي العِلمِ باللَسانِ، وَنَهجِ البلاغَةِ، وَلَا يُشتَرَط فِيه معرفةُ غرائبِ اللغَةِ.

وَمِنْ شَرائِطِهِ أَن يكونَ عالِما بالكتابِ والسننِ المتعلقة بالأحكامِ مُميزًا بَينَ صَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا، وَأَحوَالِ الرواةِ فِي التعديلِ والترجيح، وَعالمًا بسيرةِ الصحابةِ، وبما اجتمعت عليهِ الأمةُ؛ كَيلا يَخرِقَ إِجماعًا. وَأَن يكونَ عَالِمًا بالمتقدمِ وَالمتأخرِ مِنَ النصوصِ، والناسخِ والمنسوخ. وَأَن يكونَ عَالِمًا بوجوهِ دَلالاتِ الأحكامِ الشرعية وَشَرائِطِها، وَكيفِيةِ استثمارِ الأحكامِ مِنها، وَهوَ العلمُ المُلَقبُ بـ "أُصُولِ الفِقهِ".

وَلَا يَستقِل بِالنظَرِ دونَ معرفةِ استِعمالِ الأَدلةِ بِشَرائِطِها، والتمكنِ مِن استنباطِ أَحكامِ الله تعالى بِالنظَرِ فِي الطرقِ الموصلةِ، فتخرجُ الفروع على حُكم أُصولِها. وَأَن يكونَ عالِمًا بمراتِبِ الأَدِلةِ، وَمَا يجبُ تقدِيمُهُ مِنها، وَلَا بُد أَن يكونَ لَهُ فقهٌ، وَهِي غَرِيزة لَا يتعلقُ بِها الكَسبُ.

وإذا كانَ بهذِه الصِّفَةِ، وَجبَ عليهِ أَن يَنْظُرَ فِي الأَحكامِ بِاجتهادِهِ، ويحرُمُ عَليهِ تَقلِيدُ غيرِهِ فَي ما لَهُ أَهلِيةُ دَركِهِ، إِلَّا أَن يكونَ حُكما يَجِبُ لَهُ أَو عَلَيهِ لِغَيرِهِ؛ فَيَجِبُ رُجُوعُهُ فِيهِ إلَى حاكم يَحكُمُ بَينهُمَا بِاجتهادِهِ. وإذَا صَارَ مِن أَهلِ الاجتهادِ بِمَا ذكرناهُ -لَم يَجِب قَبُولُ قَولِهِ فِيمَا يفتي بِهِ غيرَهُ، إِلا أَن يكونَ ثقة عَدلًا مَأمُونًا فِي دِينِهِ، وَإذَا كانَ بهذِهِ الصفة، وَجَبَ عَلى العامي الرجوعُ إلى قولهِ، وَقبُول فتواهُ. والعامي الذِي يَجِبُ عَليهِ أَن يَستفتِيَ: هُوَ مَن لَيس لَهُ مَا ذكرناهُ مِن آلةِ الاجتهادِ.

وَقَال بعضُ المعتزلة: لَا يجوزُ للعامي أَن يقلِّدَ فِي دينِهِ، ويجِبُ عَليهِ أَنْ يَقِفَ عَلى طريقِ الحكمِ، وإذَا سألَ العالِمَ، فإنما يسالُهُ عَن طريقِ الحكمِ بِمَنزِلتِهِ، فَإذَا عَرَفهُ، وَجَبَ عَليهِ العملُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015