الأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحَشرُ: 2]:
وَالاعْتِبَارُ مَأخُوذٌ مِنَ الْعُبُورِ وَالْمُجَاوَزَةِ؛ وَلِذلِكَ سُمِّيَتِ الدَّمْعَةُ "عَبْرَةً"؛ لانْتِقَالِهَا مِنَ الْعَينِ إِلَى الخَدِّ، وَسُمِّيَتِ السَّفِينَةُ: "مَعْبَرًا"؛ لأَنَّهُ يَحْصُلُ الانْتِقَال [بِهَا]، وَسُمِّيَ تَأْويلُ الْمَنَامِ: "تَعْبيرًا"؛ لأَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِن ذَلِكَ المُتَخَيَّلِ فِي النَّوْمِ إِلَى مَعْنَاهُ، وَسُمِّيَ الاعْتِبَارُ: "اعْتِبَارًا"؛ لأَنَّ الرَّجُلَ يَنْتَقِلُ فِيهِ مِنْ حَالِ غَيرِهِ إِلَى حَالِ نَفْسِهِ.
===
قولُهُ: "وقد تَمَسَّكُوا بِحُجَج: الأُولَى: قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر 2] ... " إلى آخر التقدِيرِ:
حاصِلُهُ أنَّ القياسَ اعتبارٌ، وَالاعْتِبَارُ مَأمُورٌ؛ فالقياسَ مَأمُورٌ به.
أمَّا أَنَّ القياسَ اعتبارٌ؛ فلأنَّهُ مجاوَزَةٌ على الأَصْلِ إلى الفَرْعِ، والمجاوزةُ اعتبارٌ بدَلالةِ الاستعمالِ؛ مِن ذلك تسميةُ الدمْعَةِ عَبرَة؛ لانتقالها من العَينِ إلى الخَدِّ، وتسميةُ السَّفينَةِ مَعْبَرًا؛ لحصول الانتقالِ بها، وتسميةُ تأويلِ الرؤيَا تَعْبيرًا؛ لأنه انتقال من الصورة التخيُّليَّة إلى ما يطابِقُها ويشَابِهُها من الأُمُور الخارجَةِ، وسُمِّيَ الاتعاظُ اعتبارًا؛ لأنه انتقالٌ من حالِ غيره إلى حالِ نَفْسِهِ، والقياسُ كذلك؛ فيندرج تحْتَ مسمَّى الاعتبار.
وأمَّا أنَّ الاعتبارَ مأمورٌ به؛ فلقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر 2]، وظاهِرُ الأَمْر الوجوبُ، ولم يُورِدِ الفَخرُ على هذا المَسْلَكِ ها هنا سِوَى اعْتِراضٍ واحِدٍ، ولم يُجِبْ عنه، ونحنُ نُورِدُ ما ذُكِرَ من الأسْئِلَةِ متضمِّنَة لما ذَكَرَهُ، ونجيبُ عنها، إن شاء الله تعالى:
الأول: قوله: "الاعتبارُ حقيقةٌ في المجاوَزَةِ" - ممنوعٌ، بل هو حقيقةٌ في الاتِعاظِ، وما ذَكَرُوا من الاستعمالِ مُعَارَضٌ بمثله؛ كقولهم: "السَّعِيدُ مَنِ اعْتَبَر بغَيرِهِ"، والأَصْلُ في الإطلاق الحقيقةُ.
الثاني: سلَّمنا أنَّه حقيقةٌ في المُجَاوَزَةِ، لكنْ لا يمكن حملُهُ في الآية على القيَاسِ بِدَلالةِ السِّيَاقِ؛ فإنه لَوْ صَرَّح به، فقال: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيدِيهِمْ وَأَيدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر 2] فَقِيسُوا الذُّرَةَ عَلَى البُرِّ" - لَم يَحْسُنْ، ولم ينتظم.
سَلَّمنا صحَّةَ حَمْلِ الآية على المجاوَزَةِ، لكنَّ المجاوزة قدْرٌ مشتَرَكْ بين القيَاس وسائِرِ الأدلَّة، عقليَّةً كانَت أو نقليَّةً، فإنَّ كُلَّ مَنِ اسْتَدَلَّ بشَيءٍ على شيءٍ، فقد انْتَقَلَ من الدَّلِيلِ إلى المدْلُولِ؛ كقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةٌ} [المؤمنون 21]، وقد تقدَّم أنَّ الأَمْرَ بالماهيَّة الكُلِّيَّةِ لا يكُونُ أمْرًا بشيءٍ من جزئيَّاتها، وهذا معنى سؤالِهِ المَذْكُور في الكتَاب.
قوله: "لا يقال: ذلك المفهومُ الكُلِّي لا يُمكِنُ إِدخالُهُ في الوجُودِ إلا بواسِطَةِ إِدْخَالِ أَحَدِ أَنْوَاعِهِ؛ فيكونُ واجبًا، ولا أولويَّةَ لبعضها دُونَ بعض؛ فيجبُ الجميعُ؛ لأنَّا نقولُ: لا نُسَلِّمُ عَدَمَ الأولويَّة، بَل ها هنا أمْرٌ لا بُدَّ من إِيجابه، وهو الاعتبارُ بما أَشَارَ إِلَيهِ بقَوْلِهِ تعالى: {يُخْربُونَ بُيُوتَهُم} [الحشر 2]، فإِنَّه لا بُدَّ من الاعتبارِ بهذه الصُّورة، وإذا صُرِفَ إليه، كفَى في الخُرُوجِ عن عُهْدَةِ