وَتَقرِيرُهُ ما ذَكَرْناهُ مِنْ أَن الْوَصْفَ في جانِبِ الثبُوتِ يَكْفِي في الْعَمَلِ بِمُقْتَضاهُ ثُبُوتُهُ في صُورَةٍ واحِدَةٍ.
فأَمَّا إِذا قُلْنا: فُلانٌ عالِمٌ، فَهذا يَكْفِي في العَمَلِ بِهِ كَوْنُهُ عالِمًا بِشَيءٍ واحدٍ، فأَما كَوْنُهُ عالِمًا بِكُل الأشياءِ فَغَيرُ واجِبٍ.
فَنَقُولُ: هَبْ أَنهُم عُدُول في كُل شَيءٍ، لَكِنْ لِمَ يَجُوزُ أَنْ يُقال: الْخَطأ إِذا كانَ مِنْ بابِ الصَّغائِرِ؛ فَإِنّهُ لا يقْدَحُ في الْعَدالةِ.
===
قوله: "فَوَجَبَ أن يَكُونوا عَدولًا:
قلنا: لم قلت: إنه يَلزَمُ من وَصْفِهِمْ بِالعَدالةِ أن يَكُونُوا عُدُولًا في كل شيء؟ !
وتقريره: ما ذكره أَن الوَصْفَ في جانِبِ الإِثباتِ يكفي في صِدْقِهِ ثُبُوتُهُ في صورة.
فإذا قلنا: زيد عالم، لا يَلزَمُ أن يَكُونَ عالِمًا بكُل شيء، وهذا سُؤالُهُ الثانِي.
سلمنا أنهم عُدُولٌ في كُل شَيءٍ، لكن في كُل زَمانٍ، وفي زمان الأداء؟ :
الأول مَمنُوعٌ، والثاني مُسَلَّم، ونحن نَقُولُ به؛ فإنهم عُدُولٌ عند أَداءِ الشهادَةِ التي وَصَفَهُمُ الله -تَعالى- بِالوَسَطِ لأجلها، أو هي الشَّهادَة على الناس يوم القِيامَةِ للأنبياء -صَلَواتُ الله تعالى عليهم- فلم قلتم: إنهم عُدُول عند التحمل في دار الدنيا، وإنه غَيرُ لازِم؛ فإنَّه يَصِحُّ تَحَمُّلُ الفاسِقِ، والكافر، والعبد، والصبي المميز.
سَلمنا أنهم عُدُولٌ مُطلَقًا في الدنيا والآخِرَةِ، لكن مجموع الأُمَّةِ المَوْصُوفون هُمُ الموجُودُونَ عند نزولها؛ لأنَّ الخِطابَ خِطابُ المواجهة، لكن الموجودين عند نُزُولها غَيرُ مَعلُومِينَ لنا، ولا بَقِيَ الجَمِيعُ بعد مَوتِهِ، فإنَّه قد استُشهِدَ في حَياتِهِ -عليه الصلاة والسلام- جَماعَةٌ من المُهاجِرِينَ والأنصارِ، وهذا معنى سُؤالِهِ الأَوْلِ؛ إلا أنَّه قال في تَقرِيرِهِ: "لكن لا نعرفهم بأَعيانِهِم، ولا نَعرِفُ أيضًا ذلك الوقت بعينه؛ وحينئذ لا يُمْكِنُنا أن نَعرِفَ الإِجماعَ الذي حَصَلَ في ذلك الوَقتِ" وفي ضمن هذا التقْرِيرِ اعتِرفٌ بِصحة صُورَةِ الإجماعِ.
وما ذَكَرناهُ من التَّقرِيرات أَقرَبُ إلى الغَرَضِ؛ فإنه لا يرد عليه ما ذكره من الدّخل الذي ذكره وأَجابَ عنه على زَعمِه؛ وهو قوله: "ولا يُمكِنُ أن يُقال: إنه لما ثَبَتَ أَن ذلك الإجماعَ حُجَّةٌ، وجب أن تكون سائِرُ الإجماعاتِ حُجًةَ؛ لانعِقادِهِ على أنَّه لا قائِلَ بِالفَرقِ؛ لأنا نقول: هذا إِثباتٌ لأصْلِ الإجماعِ بِأَضْعَفِ أنواع الإجماعات؛ وهو في غايَةِ الفَسادِ"، يعني: أنَّه استِدلالٌ بِإِجماع تَركِيبي عَلى أَصْلِ الإجماعِ، وهو مُختَلَفٌ في صِحَّتِهِ عند القائِلِينَ بأَصلِ الإِجماعِ.
سلمنا: أن كُل ما يقولونه حَقّ وصِدقٌ، لكن لم قُلتُم: إن كُل ما كان حَقًّا في نفسه يكون حُجة، يجب على المُجْتَهِدِ اتّباعُهُ؟ وظاهر أنَّه غَيرُ لازِمٍ؛ فإنه: لا يَسُوغُ لمجتهد اتّباعُ قَوْلِ مُجْتَهِدٍ