وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصَّافَّات: 105]- فَلَا دَلالةَ فِيهِ عَلَى أنَّهُ أَتَى بِكُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ؛ بَلْ فِيهِ دَلالةٌ عَلَى أَنَّهُ اعْتَقَدَ صِدْقُ الرُّؤيَا، وَعَزَمَ عَلَى الإِتْيَانِ بِهَا، وَأَمَّا أَنَّهُ فَعَلَهَا بِتَمَامِهَا، فَالآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَيهِ.

احْتَجَّ الْمُخَالِفُ: بِأَنَّ مُتَعَلَّقَ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فِي هذِهِ الصُّورَةِ -شَيءٌ وَاحِدٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ؛ لأَنَّ مُتَعَلَّقَ الأَمْرِ: هُوَ أَنْ يُصَلِّيَ زَيدٌ رَكعَتَينِ وَقْتَ الْغُرُوبِ، وَمُتَعَلَّقَ النَّهْيِ: هُوَ أَلَّا يَفْعَلَ ذلِكَ الشَّخْصُ ذلِكَ الْفِعْلَ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ.

إِذَا عَرَفْتَ هذَا، فَنَقُولُ: ذلِكَ الفِعْلُ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَسَنًا، أَوْ قَبِيحًا، وَعَلَى التَّقْدِيرَينِ: فَالآمِرُ وَالنَّاهِي: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحَالِهِ، أَوْ لَا يَكُونَ:

===

وأما ثَبَاتُ التناقض فغيرُ لازمٍ؛ لوجوب اشتراطِ التأخيرِ في النسخ، ولا يمتنع كونُ الشيء حسنًا قبيحًا بالنسبة إلى وقتين. أو بمنع حضرِ الحِكْمَةِ في المأمور به، فقد تكون في نفس الأمر للابتلاء؛ كما ذكر في الجواب.

وأمَّا تَوَقُّف الأَمر على الإِرادة فقد أبطلناه بالإجماع؛ فَإِن الله تعالى أَمَرَ الكُفَّارَ والفَسَقَةَ، مع عدم إِرادته لوقوع الفعل منهم.

وأمَّا الأمرُ المُعَلَّقُ على شرطٍ يَعْلَمُ الآمِرُ عَدَمَ بلوغه- فقد أقمنا الدَّلِيلَ فيما تقدم على جوازه، وأنَّ شَرْطَهُ جَهْلُ المأمورِ لِتَحَقُّقِ الابتلاء، لا جَهْلُ الآمرِ كما زعموا.

وأما عدمُ تصورِ النسخ فقد بيَّنا أَنَّ النسخ راجعٌ إلى الرفع، لا إلى التخصيص.

وأما النقل: فقصة إِبراهيمَ الخليل - عليه السلام - فإنه أُمِرَ بذبح ولده، ونسخ منه قبل الامتثال.

وقد اعترضوا على التمسك بالآية بخمسة مقامات:

المقام الأول: لا نُسَلِّمُ أنه أُمِرَ؛ فَإِنَّهُ كان منامًا، وليس كُلُّ منامٍ للأنبياءِ وحيًا، بل منه ما هو مُحْتَاجٌ إلى التفسير؛ كرؤيته -عليه الصلاة والسلام- كَسرَ سيفِ قَيصَرَ بسيفه، والاستقاء من البئر.

وقول ولده: "افعل ما تُؤمرُ": لا يَدُلُّ على الأمر؛ فإِنَّهُ لم يكنْ إذ ذاك نبيًّا، فلا مانِعَ من ظَنِّهِ ما ليس بأمرٍ أمرًا وقوله: "افعل ما تؤمر" صِيغَةٌ تصلُح للاستقبال.

وأُجِيبَ: بتقدير إِبراهيمَ - عليه السلام - للأمر، وتقديرُه ما ليس بأمرٍ أمرًا يكونُ تلبيسًا، والظَّنُّ الكاذِبُ مُمْتَنِعٌ على الأنبياءِ -عليهم السلام- ولو جاز اعتقادُهُ ما ليس بأمرٍ أمرًا لَمْ يوثَقْ بشيءٍ مِمَّا يُبَلِّغُونَه، وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات 103] يمنع من حَمْلِ الأمر على المستقبل.

المقام الثاني: قالوا: سَلَّمْنَا أَنه كان أمرًا، لكنه أمر بالعزم على الذبح.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015