وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذلِكَ -فَالاسْتِثنَاءُ الثانِي: إِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الأوَّلِ، أَوْ مُسَاويًا لَهُ- عَادَ أَيضًا إِلَى الأَوَّلِ؛ كَقَوْلِكَ: "لِفُلانٍ عَلَى عَشَرَةْ إِلَّا أَرْبَعَةً إِلَّا خَمْسَة".

===

وهذا المعنى لا يتحقق في المساوي؛ فوجب البقاءُ على الأَصل.

احتج المُجَوِّزُونَ: بأنه لو قال: له على عشرةُ دراهمَ إلَّا تسعةً- لزمه دِرْهَمٌ واحد بإجماع علماءِ الأمصارِ.

ورُدَّ: بأنه تفريعٌ على هذا المَذهَبِ، واستَبعَدَ دعْوى الإجماع مع خلافِ أَحمَدَ وَغَيرِهِ.

قوله: لو صحَّ تخصيصُ الأكثر فيصحُّ استثناؤه؛ لأنَّ معناهما واحد.

ورُدَّ: بأنه قياسٌ في اللُّغَةِ.

قالوا: قد سُمِعَ من العرب قولُ الشاعر [من البسيط]

أَدُّوا الَّتِي نَقَصَت تِسعِينَ مِن مائَةٍ ... ثُمَّ ابعَثُوا حَكَمًا بِالْحَقِّ قَوَّالًا

هو في معنى الاستثناء.

ورُدَّ: بأَنهُ قياس، وأيضًا فلا تَثْبُتُ هذه القاعِدَةُ ببيتِ شعرٍ غيرِ صريح.

احتجوا بقوله تعالى: {قَال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْويَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص 82 - 83]، وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِمْ سُلْطَانٌ إلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوينَ} [الحجر: 42]؛ حيث استثنى الغاوين مَرَّةً والمُخْلَصِينَ مَرَّةً.

وأيَّامًا كان أكثر لَزِمَ استثناءُ الأكثرِ من الأَقَل، كيف والغاوون أَكْثَرُ؛ لقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17].

ورُدَّ عليه: أن قوله تعالى: {وَلَأُغْويَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] المُرَادُ منه ذُرِّيَّهُ آدَمَ -عليه السلام-؛ بدليل قوله تعالى: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلا قَلِيلًا} [الإسراء 62]، وأن المخلصين إما المَعصُومُونَ وهم الأنبياءُ، وإما الصالحون.

وأيًّا ما كان، فهو استثناءُ الأَقَلِّ.

وأمَّا قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر 42]، فظاهِرٌ أَنَّ إضافَةَ العِبَادِ ها هنا: إضافَةُ تشريف، وهم المخلصون.

وحينئذ: يتعيَّنُ أن يكونَ قوله: {إلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوينَ} [الحجر 42] استثناء مُنقَطِعًا؛ كقولك: مِن أَين أتيت؟ .

فإن قيل: فقد مَنَعَ قَوْمٌ وقوعَ الاستثناءِ المُنْقَطِعِ في القرآن والشِّعْرِ، ورَدُّوا جَمِيعَ ذلك إلى المُتَّصِلِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015