فَإِنْ قِيلَ: هذَا الْقَوْلُ الَّذِي اخْتَزتُمُوهُ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ الله- وَهُوَ يُسَلِّمُ أَنَّ الاسْتِثنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالى يَعُودُ إِلَي كُلِّ الجُمَلِ؛ فَالشرْطُ الْمَذكُورُ عَقِيبَ الْجُمَلِ يَعُودُ إِلَى الكُلِّ.

ثَمَّ نَقُولُ: هَبْ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الدَّلِيلِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الاسْتِثنَاءِ بِجُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَمَا السَّبَبُ فِي تَعَلُّقِهِ بِالْجُمْلَةِ الأخَيرَةِ؟ !

فالْجَوَابُ عَنِ الأَوَّلِ: أَنَّا نَمْنَعُ الحُكْمَ فِي الإِلْزَامَينِ.

وَأَمَّا السَّبَبُ فِي تَعَلُّقِ الاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ الأَخِيرَةِ- فَفِيهِ طَرِيقَانِ:

الأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ تَعَلُّقُهُ بِالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ- وَجَبَ تَعَلُّقُهُ بِالْجُمْلَةِ الأَخِيرَةِ؛ كَيلا يَحْصُلَ قَوْلٌ ثَالِثٌ خَارِقٌ لِلإِجْمَاعِ.

===

واحتجَّ أيضًا: بأنَّ الاستثناءَ لو عادَ إلى الجميع فإما أن يُضْمَرَ عَقِيبَ كُلِّ جملة، وهو خلافُ الأصل.

أو يُكْتَفَى بالأُخْرَى، والعَامِلُ في المُسْتَثْنَى هو العَامِلُ في المُسْتَثْنَى مِنْه بواسطة "إلَّا"؛ فيلزمُ اجتماعُ العواملِ الكثيرةِ على معمولِ واحدٍ، وقد نَصَّ سيبويهِ على مَنْعِهِ.

واعْتُرِضَ عليه: بأَنَّا لا نُسَلِّمُ أَنَّ العَامِلَ ما ذكره؛ بلْ للنحاة فيه مَذَاهِبُ.

ولو سُلِّمَ، فلا نُسَلِّمُ امتناعَ [اجتماع] عامِلَينِ في مَعْمُولٍ واحد؛ فإِنَّهَا مُعَرِّفَاتٌ لا مُؤَثِّرَات.

وقول سيبويهِ يُعَارِضُهُ قَوْلُ الكسائيِّ.

قوله: "فإن قيل: هذا القول الذي اخترتموه هو قول أبي حنيفة، وأنه سلم أن الاستثناء بمشيئة الله تعالى يعود إلى الجميع والشرط المذكور عقيب الجمل" مِثَالُ ذلك قول القائل: نساؤُهُ طوالِقُ، وعَبِيدُهُ أحرارٌ، ودُورُهُ حَبْسٌ إلَّا أن يشاء الله، أو إنْ جاءَ زيد، في الأَوَّلَين.

وقد سَلَّمَ أبو حنيفةَ عَوْدَهَا إلى الجميعِ، ومَنَعَ الفَخْرُ عودها في الجميع، ومَنْ سَلَّمَ فَرَّقَ بأنَّ هذا شرط، وقياسُ الاستثناءِ عليه قياسٌ في اللغة، وهو ممنوع ولو سُلِّمَ؛ فلا بُدَّ من جامع، ثم الفَارِقُ أنَّ الشَّرطَ يُقَدَّرُ تَقَدُّمُهُ، بخلاف الاستثناء.

وَللْخَصْم أَنْ يُقَرِّرَ الجَمْعَ بِأَنَّ كُلَّ واحدٍ منهما مُخَصَّصٌ غيرُ مُسْتَقِلٍّ، ولا فرقَ بين قوله: "إلَّا مَنْ تاب" أَو: إنْ لم يَتُبْ، والفَرْقُ ضعيف، فإنَّ الشرطَ إنما يقتضي تقديمه فيما هو شَرْطٌ فيه، ولا نُسَلْمُ أنه شرطٌ في الجميعِ.

قوله: "وأَمَّا السبب في تعلقه بالجملة الأخيرة- ففيه طريقان: الأول: أنه لما ثَبَتَ تَعَلُّقُه بالجملة الواحدة، وَجَبَ تَعَلُّقُهُ بالجملة الأخيرة؛ لِئَلَّا يَحْصُلَ قولٌ ثالث خارق للإِجماع".

هذا إنما يَلْزَمُ الشَّافِعِيَّ.

وأما المرتضى والقاضي: فلم يُسَلِّما الانحصارَ في القولينِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015