أما الأَوَّلُ وَالثانِي: فَكانهُمَا يَقْتَضِيَانِ بُطلانَ انعَقدِ؛ لأنّ عَلَى هذَا التقدِيرِ: تَكونُ المَفسَدَةُ مُتَمَكِّنَةَ فِي جَوهرِ المَاهِيَّةِ.

أَمَّا الْقِسمُ الثالِثُ -وَهُوَ أَن يَكُونَ مَنشأُ الْمَفسَدَةِ أَمرًا خَارِجًا عَنِ الماهية لازِمًا لَها-: فَههُنَا قَال أَبو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ الله-: وَجَبَ أَنْ يَنْعَقِدَ العقد مَع وَصفِ الْفَسَادِ؛ لأنَّ مَاهِيةَ هذَا الْعقدِ وَجَمِيعَ أَجزَاءِ مَاهِيتها، إِذَا كَانَتْ خَالِيَةً عَنِ الْمَفسَدَةِ، وَكَانَ مَنْشَأُ المفسدة الوصف الخَارِجِيَّ: فَلَو حَكَمنَا فِيه بالبُطْلانِ الْمُطْلَقِ -لَكُنا قَدْ رجحنَا مُقتَضَى الأَمرِ

===

سائر الصور، بل يفيده تارة، وتارة لا يفيد. والضابط فيه: أن المنهي عنه، إما أن يكون تمام الماهية، أو جزءًا منها، أو خارجًا لازمًا، أو خارجًا مفارقًا:

أما الأول والثاني: فَإنهُما يقتضيانِ بُطلانَ العَقدِ؛ لأَن على هذا التقديرِ تكونُ المفسَدَةُ مُتَمَكنَة في جوهر المَاهِيةِ":

هذانِ القسمان ممَا ساعدَ الحَنَفِي على أنهما يَدُلَّانِ على الفساد.

وإنما يُخَالِف الشافِعِي، ومالكًا -رحمهما الله تعالى- في أنهما يقولانِ: إِن إِطلاقَ النهي يقتضي الفَسَادَ بظاهِرِهِ في نفس ما أَضِيفَ إِليه، ولا يَنصَرِفُ عنه إلا بدليل منفَصِل يَضرِف النهي إلى المُجَاورِ المُفَارِقِ.

وأبو حنيفةَ -رحمه الله- يَزعُمُ أن مُقتَضَى الإِطلاقِ في النهي مَحمُول على المُفَارِقِ، ولا يَنْصَرِفُ إلى ما أُضِيفَ إِليه إلَّا بدليل، وهو بَعِيدٌ؛ فإنه يُقَدرُ غيرَ المنطوق به ظاهرًا، والمنطُوق به ليس بظاهرٍ؛ وإنما حَمَلَهُ على ذلك: اعتقادُ أَن الشارعَ غَيرَ الأَلفاظَ، فهو إِذا أضاف المَنهِي إِلى بيع، أو صوم، أو نكاح مثلًا- فالمراد به المَاهية الشرعِية، والماهِياتُ الشرعيةُ تَستلزِمُ الصحةَ، فَإِضافَةُ النهيِ إِلَيها يُنَاقِضُ مَشرُوعِيتَها، فاحتاج إلى أنّ يَصرِفَ النهيَ لغيرها.

ونحن نقول: إِن المَاهياتِ الشرعيةَ يَنبَغِي أَن تؤخَذَ عَرِية عن قَيدَي الصّحّة والفَسَادِ، وحينئذٍ يَصِح اعتوار الحكمين عليها.

أو يقال: إِن المَاهِيةَ الشرعِيةَ إِذا كانت باعتبارِ الجَعلِ، فتؤخذُ من المَنهِي عنه إِضافة قيدٍ في المشروع؛ لِدَفع التناقُضِ.

قوله: "وَأما القسم الثالث: وهو أن يكون منشأ المفسدة أمرًا خارجًا عن الماهية لازمًا، فههنا قال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى: وجب أن ينعقد العقد مع وصف الفساد ... " إِلى آخره:

حاصِلُ ما ذَكَرَهُ: أن أبا حنيفةَ -رحمه الله- يَزْعُمُ أن النهيَ مَتَى لم يرجع إِلى مَاهِيةِ الشيءِ أو جُزئهِ- كان ذلك الشيءُ مشروعًا بأصله دون وَصفِهِ.

وَبَنَى على هذا مَسَائِلَ:

منها: لو نَذَرَ صومَ يومِ العِيدِ، وصامه - أَجزَأَهُ وزعم أَن الصومَ بما هو صَومٌ: مَشرُوعٌ، وإضَافَتهُ إِلى اليومِ المخصوصِ غَيرُ مشروع؛ فيكونُ مُطِيعًا بأصلِ الصومِ، عاصيًا بالإِضَافَةِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015