الاسْتِفْهَامَ؛ لأَنَّهُ عَلَى الله تَعَالى مُحَالٌ، بَلِ الذَّمَّ؛ فَإِنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ فِي التَّرْكِ بَعْدَ وُرُودِ الأَمْرِ؛ هذَا هُوَ الْمَفهُومُ مِنْ قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: "مَا مَنَعَكَ مِنْ دُخُولِ الدَّارِ؛ إِذ أَمَرْتُكَ؟ ! " إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَفْهِمًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، لَمَا ذَمَّهُ اللهُ تَعَالى عَلَى التَّرْكِ، وَلَكَانَ لإِبْلِيسَ أَنْ يَقُولَ: "إِنَّكَ أَمَرْتَنِي بِالسُّجُودِ، وَمَا أَوْجَبْتَهُ عَلَيَّ؛ فَكَيفَ تَلُومُنِي؟ ! ".
===
وهؤلاءِ اختلفوا على ما ذكر:
فمنهم مَنْ قَال: هي حَقِيقَةٌ فيهما، ولا تعين لأَحدهما إلا بقرينة.
ومنهم مَنْ قال: إِنَّها حقيقة فِي أحدهما، مجازٌ فِي الآخر، إلا أنا لا ندري أيهما الحقيقة.
ومنهم مَنْ قال: تُفِيدُ أَصْل الترجيح، أما أنَّه مانع من النقيض، أو غير مانع، فلا يعرف إلا بقرينة.
قوله: "وهذا الوجْهُ أَحْسَنُ الوجوه" يعني: لِخُلوِّه عن الاشْتِرَاكِ، والمجاز.
ومنهم بَنْ قال: تُفِيد النَّدْبَ؛ لأَنَّهُ المتيقن، ولحوق الذم بالترك مشكوكٌ فيه.
ومذهب الفقهاء: أنها حقيقةٌ فِي الوجُوب، مجازٌ فِيمَا عداه. ثم اختلف هَؤلَاءِ:
فمنهم مَنْ قال: تفِيدُ الوُجُوبَ وضعًا، ومنهم من قال: تفيده شرعًا، والحجج تأتي على المذهبين، إِنْ شاء اللهُ تعالى.
قوله: {إِذ أَمَرْتُكَ} وليس المراد منه الاسْتفهامَ" يعني: أنَّ الاستفهامَ يلزم منه الاستبهام، وهو جهل، وهو على الله تعالى محالٌ، فَتَعَيَّنَ حمله على مجازه، وهو إما التقرير؛ كقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1].
أو التوبيخ؛ كقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيطَانَ} [يس: 60].
وهذا التوبيخ والذم على الترك مِنْ خاصية الوجوب، فدلَّ على أَن الأمر فِي الآية للوجوب.
قوله: "فإِنْ قالوا: لعل الأمر فِي تلك اللغة كان مفيدًا للوجوب":
تقريره: بأَنَّ النزاع لم يقع فِي أن الأمر يذم تاركه، وإنما النزاع فِي أن "افعل" بمجردها للوجوب، أو لا؟
فَإِنْ قُلْتُمْ: إِن أمر الملائكة الَّذي يشمل إبليس كان بصيغة "افعل"، ولعلَّه كان بصيغة ناصة من لغةٍ أخرى، فلا تفيد ذلك المطلوب.
قوله فِي الجواب: "قلنا: الظاهر يقتضي تَرْتِيبَ الذمِّ على مخالفة الأمر بأيّ لغَةٍ كان".
يقال له: هذا لا يدفع السؤال؛ فإنَّ تلك اللغة جاز أَنْ تكون ناصَّةً؛ فلا تفيد المطلوب.
وقد أُجِيب عنه بجوابٍ آخرَ: وهو أن المطلق يُحْمَل على المقيَّد إذا اتحدت الواقعةُ؛ وقد قال الله تعالى فِي آية أخرَى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا} [البقرة 34]، وقال تعالى: {فَإذَا سَوَّيتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدينَ} [الحجر 29].