لبس الدهر مَلبوساً، وإنما هي استعارة يقول: إذا لبستُ الدهر مليا أهرمني، وهو لا يُهرِمُه امتداد برهته، فجرى الأمر بيني وبينه بضد ما يجري بين اللابس والملبوس، لأن شأن اللابس أن يُخلق الملبوس، والدهرُ ملبوسٌ يُخلق لا بسهَ. ولما استجاز أن يجعله ملبُوساً، استعار له التخَرُّقَ.
) إذا شَعَتِ الأعداء في كَيْدِ مَجدِه ... سَعَى جَدُّه في كَيدهم سعى مُخنقِ (
حنق حنقاً: غضب، واحتنقتهُ: اي إذا رام العدو كيد مجده، فحاول هدمه بمبارزته أو مقاومته، غضب جده، فدفع سعى عداه بسعي أنفٍ وأيدٍ، على ما تقدم قبلُ.
) كيدُ العدو لمجده (.) وكيد (: مصدر كاد يكيد المتعدية: كقوله تعالى:) فإن كان لكُم كيدٌ فكيدُون (. فَمَجدُه، مجرور في موضع نصب. اي في كيدهم لمجده. وذلك أن المصدر يضاف إلى المفعول، كما يضاف إلى الفاعل، كقوله تعالى) لاَ يسأمُ الإنسانُ مِن دُعَاء الخيْرِ (، فالخير في موضع المفعول، اي من دعائِهِ الخير.
وله ايضا:
) يَشكُو الملامُ إلى اللوائم حرهُ ... ويَصُدُّ حين يُلمن عن بُرحائه (
اي إن الملامة لا تتعى سمعي؛ ولا تصل إلى فؤادي، لأن حره يمنعها من ذلك، فهي تتفادى منه. ويعتذر إلى اللوائم من قصوره عن الوصل إليه، بما يتوقعه من ناريته. والكلام شعريٌّ لا حقيقة، لأن الملا عرض، والعرض غير حاس فيشكو. وإنما تشكو الجواهر ما يلحقها من العَرَض. وشبه أبو الفتح هذا بقول كثير:
ذَهوبٌ لإعتاق المئينَ عَطاؤه ... غلُوبٌ على الأمرِ الذي هو فاعلُ
) ويصد حين يلمن عن برحائه (
مثل ما تقدم والبرحاء: الشدة.
) ما الخِلُّ إلا من أودُّ بقلبهِ ... وأرى بطرفٍ لا أرى بسوائه (
أي ما الخل الا من يكون حظى من قلبه، حظه من قلبي، ويرى بالعين التي أراهُ بها، فيقع التكافؤ في الحب والجلالة، لا من حظى من فؤاده مُقصر عن حظه من فؤادي، وتعظيمه لي دون تعظيمي له.
وقد يجوز أن يعني بذلك التناهي في التشاكُل والتناسُب؛ حتى كأنه هو جملة. واذا كان هو إياه بالجُملة، فقلبُه قلبُ خليله، وَعينه عينه.
) عَجب الوُشاةُ من اللُّحاةِ وقولهم ... دع ما نراك ضعُفت عن إخفائه (
إنما عجب الوشاة من اللُحاة في ذلك، لأنهم كلفوه ترك ما يعجز عن إخفائه، والإخفاء للحُب أمكنُ من تركه. فإذا ضعف غن الأقل الذي هو الإخفاء؛ وقد علم اللُّحاةُ ذلك منه، فكيف يكلفونه الأكثر الذي هو السُّلوان.
وقوله:) ضعفت عن إخفائه (: جملة في موضع المفعول الثاني، إن كانت الرؤية علمية، أو في موضع الحال إن كانت الرؤية حسية.
) مهلاً فإن العذل من أسقامه ... وتَرَفقاً فالسمعُ من أعضائه (
اي إن العذل يُسقمه كما يُسقمه الحب، فهو نو من إسقامه، وترَفقُّاً في عذلك، فإن السمع الذي يقرعه عذلُك من جملة أعضائه. فإن عَنُفت به في العذل، اختل سمعُه أو ذهب.
وإنما قدر ذلك نافعاً له عند من عذله، لأن العاذل لم يُرد بعذله إفساد جوهره، وإنما أراد إصلاحه. فيقول: إن لم تترفق، عاد ما حاولته من إصلاحي إفساداً إلي.
والسمع: يجوز أن يكون مصدراً، إلا أنه إذا كان مصدراً، فليس من أعضائه. لانه حينئذ جنس، والجنس عَرَض، والأعضاء جواهر، والعَرَض لا يكون جزءاً للجوهر. وإنما عنى موضع السمع من أعضائه.
وقد يجوز أن يكون السمعُ اسماً للأُذن، سُمي لحسها، كما سميت العينُ بصراً في بعض المواضع. وإنما البصرُ في أكثر الكلام حسنٌ.
) وَهَب المَلامَة في اللذَاذَةِ كَالَري ... مطرُودة بسُهاده وبُكائهِ (
اي إن كنت تلتدُّ بالملامة، فاجعلها كالكري الذي قد عدمتهُ أنا، على التذاذي به. فكما نفاهُ عنى سهادي وبكائي؛ فكذلك ينبغي لك أيها اللائم أن يُسليك عن كلامي الذي تلتذ به ما تراه من سُهادي وبكائي، فيعودا سواء في امتناع الالتذاذ. ودعاه إلى الائتساء به في الصبر على عدم ما يُلتذُ به.
) ومطرودة (: مفعول ثان لِهَب، لأنها بمعنى) اجْعَل (المعتدية إلى مفعولين. وإن شئت قُلت: إنه بدل من موضع) كالكري (لنه بمنزلة قولك مثل الكَرَي. وهو القول أقوى.
) إن المُعين على الصبابةِ بالأسى ... أولى برحمة ربها وإخائهِ (
اي مُعينى على الصبابة: من أعان بالمؤاساة لا بالملام. فإن راحم ذى الصبابة مُؤاسه بالعذر، لا لائمه.