تلاك يعني الغيث، ويخاطب الملك، وكان الغيث قد صحبه من الشام إلى ميافارقين وبعض الغيث يتبع بعضه: اي أنك غيث، فلا تلم الغيث في اتباعه إياك، لأن بعض الغيث يتبع بعضاً. و) من الشام (: متعلق بتلاك؛ اي تلاك هذه الغيثُ من الشام.
) يتلو الحاذق المتعلمُ (: إما أن يكون هذا على المَثل، فيكون الحاذق والمتعلمُ نوعين، اي كل حاذق يتلوه مُتعلمه، من اي الطبقات كان. فهذا وجه المثل الكلي.
وإما أن يهني بالحاذق سيف الدولة، وبالمتعلم الغيث، اي سيف الدولة هو الحاذِق بسلوك طريقة الجود، والغيثُ مُتعلمٌ منه فهو يتبعه لذلك.
ولو اتزن له أن يقول: يتلو المُعَلمَ المُتعلّم، لكان حسناً لمقابلة الفاعل بالمنفعل المفعول، ولكن في الحاذق مزيةٌ، اذ ليس كل مُعلم حاذقاً.
) ألم سألِ الوابلُ الذي رام ثنيناَ ... فيُخبره عنك الحديدُ النُثبمُ (
اي: ألم يسأل الوبلُ الذي اراد صرفنا عن وجهنا، الجديد المَثلم فيخبره عنك، انه لم يجد فيك مطمعا، ولا لصرفك مَوضعاً. فكيف يروم الغيث من فك وصرفك، ما عجز عنه الحديد، الذي هو أقدر على ذاك منه. فالعامل في هذا البيت الفعل الآخر، الذي هو) فيخبره (. وهذا كقولك ضربتُ وضربني زيد، اي ضربت زيداً، وضربني زيدٌ.
فخذف لدلالة الثاني. وقد أبان سيبويه ذلك وقال: إنه كلام العرب، أو أكثر كلامها. يعني إعمال الثاني. ولو أعمل الاول لقال الحديد المثلم فيخبره، وهو كقولك: ضربت وضربني زيداً، اي ضربت زيداً وضربني.
وله ايضا:
) وَمن صحب الدنيا طويلاً تَقَلبت ... على عينه حتى يرى صدقها كذبا (
اي لا صدق أصدقُ من العيان، وبه تثبت حقيقة البُرهان. فيقول: من عرف الدنيا علم أن ما يراه عياناً مما يسره، لا يلبث أن يزول، فيعقبه ما يسوءه فكأن ذلك الصدق المدرك بالعيان كذب. و) طويلا (هنا: نصب على الحال، ولا يكون على الظرف، لأن طويلاً ونحوه صفة، وليس بحين يقع فيه الفعل، ولذلك اختار سيبويه في قولهم:) سِبر عليه حسناً وشديداً ونحوهما (أن يكون أحوالا لا ظرفاً، لما قدمنا.
) لقدْ لعب البينُ المُشتُّ بها وبي ... وزودني في السير ما زود الضبا (
يعني ما زود الضبَّ العدم، وإن كان لفظه لفظ الوجود. اي لم يُزودني شيئاً بقدلا ما يشربُ الضبُّ من الماء. والضب لا يشرب الماء ألبتة، إنما يستروح النسيم.
) إذا الدولةُ استكفتْ به في مُلمةٍ ... كَفَاهَا فكانَ السيفَ والكفَّ والقلباَ (
استكفت به: اي طلبت الكفاية. ولو قال استكفتهُ فاتزن، كان) مثل (قوله: استغفرت الله واستعجلت السير.
) كفاها فكان السيف والف والقلب (: اي كان هو الجامع لهذه الثلاثة، وذلك أن السيف لا يستغني عن الكف، والكف لا تقبض عليه حتى يؤيدها القلب. وقد قال هو في تحقيق هذا:
وَلَكِن إذا لم يحمل القلبُ كفه ... على حاله، لم يحمل الكف ساعدُ
) فبُورِكت من غيثٍ كأن جثلُودنا ... به تُنبتُ الديباج والريط والعصبا (
العَصبْ: برود اليمن، جعله كالغيث وجعل جلودهم كالأرض التي إنما تُنبت بالغيث. فان شئت قلت: كَنَى بالديباج والربط والعصب عن نَعْمة جلودهم وما يعلوهم من الخير. وإن شئت قلت: كنى به عما تَهب لهم من الكُسا، وإن شئت قلت: إن الغيث يُنبِت الرياض، وجلودُنا بنداك تنبت ما هو أحسن من الرياض: عَصْباً وديبتجاً.
) ولكنه وَلى وللطعنِ سورةٌ ... إذا ذَكرتها نفسُه لمَسَ الجَنبْاَ (
سَورة: حِدةٌ وارتفاع: اي إذا ذكر سَورْة الطعنة لم يصدق أنه نجا منه فلمس جنبه، ليعرف هل أصابه الطعن أم لا؟ كقول أبى نواس:
إذا تفكرتُ في هواى له ... لمستُ رأسي هل طار عن جسدي
يعني أنه يَهوَي ممتنعاً عزيزاً.
) فأضحى كأن السُّور من فوقُ بضدؤُهُ ... إلى الارض قد شَق الكواكب والتُّرْبا (
) من فوقُ (: مبني على الضم لحذف المضاف إليه. وبدؤه: ابتداؤه. اي أن هذا السور فوقه قد شق الكواكب إلى ما فَوقها؛ وأسفله قد شق التربَ إلى ما تحته، كقول السموءل بن عادياء يصف حصْناً:
رَسا أصلهُ تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فَرع لا يُنال طويلُ
فكأنه قال من السماء بدؤه إلى الارض. وإذا كان من السماء إلى الارض، فهو لا محالة من الارض إلى السماء. وإن كان المبدأ الصحيح إنما هو: من الارض.