) وَضَاقَتِ الأَرضُ حتى كان هارِبُهم ... إذا رأى غيرَ شيء ظَنَّه رَجُلا (

أما الرؤية فلا تقع على غير شيء، لأن غير شيء ليس بمحسوس إحساس الجوهر، ولا إحساس العَرَض، لأن غير شيء خارج عن الجور والعَرَض، لأن كل واحد من الجوهر والعرض شيء، وإنما أراد هذا الشاعر: إذا رأى غير شيء يُحفَل به في قوة قولك: إذا رأى شيئاً لا يحفل به ظنّه رجلا كقول العرب: إنك ولا شيءَ سواءٌ، ومحال أن يسوى بين الموجود والمعدوم، لأنهما في طريق التضاد، ولكنهم يريدون إنك ولا شيءُ يُعْبأ به سواءٌ ولكنهم قالوا: إنك ولا شيء، واكتفَوا به من قولهم وشيئاً لايعبأَ به، لأن مالا يعبأ به كالمعدوم، ولذلك ألْزَمَناَ سيبويه الْنصب في قوله: إنما سرت حتى أدخلها، إذا كنت مُحتقراً للسَّير، قال الْفارسي: إنما ذلك لأنه لا شيء أقرب إلى طبيعة النفي من الاحتقار، والنفي عدم فجعل الاحتقار كالعدم.

) فَبَعْدَهُ وإلى ذّا اليومِ لَوْ رَكَضتْ ... بالخَيلِ في لَهَوات الطِّفْل ما سَعَلاَ (

أي أن هذه القبيلة قَلَّتْ وذَلًّت، حتى لو ركضوا الخيل، على قوة الركض، في لَهَوات الطفل، على ضعفه، ما شعر بهم فيسعُل، بالغ بذلك كقوله:

ولَوْ قَلَمٌ ألْقِتُ في شِقِّ رأسِه ... من السُّقم ما غيرتُ من خط كاتب

فأما قول رؤبة في صفة الصائد:

فباَت والنفسُ من الحِرْص الفَشَثْ ... في الغاب لو يمضغ شَرْياً ما بَصَق

فإنما أراد أن هذا القانص من النَّهَم على صيد الوحش، وخشية أن يسمع له حِسَّا فينفر، لو مَضَغَ الحنظل، لم يبصُق خشية أن يُنَفِّرها بَصْقهُ، وقال الأصمعي: إن تهمّه عَلَى التَّصُّيد قد شغله حتى لو مضغ الحنظل لم يشعر بمرارته فيبصُق.

وخص المتنبي لهوات الطفل لأنها مظنة السُّعال.

وقوله: ركضت بالخيل، إنما وجهه: لو رَكَضتْ الخيل، يقال: ركضت الدابةَ، ولا يقال ركضتُ بها. هذا هو المعروف في اللغة، لكن قد يجوز أن يكون ركض بالدابة لغة، فيكون من باب طَوَّحْته وطوَّحْتُ به. وقد يجوز أن تكون الباء زائدة كقوله) سُودُ المحَجرِ لا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ (

) كَمْ مَهْمَهٍ قَذَف قَلْبُ الدليل ... قَلبُ المحبِّ قَضَانني بعدَ ما مَطَلا (

قال) المحِبّ (فجاء به على لفظ الفاعل، ولم يقل الحبيب وهو يريده، لأنه عَنَى شدة إشفاقه في المَهْمَه، وذلك أن المعشوق إذا أحب عاشقه، فإنما يهجرهُ لخوف واش أو رقيب، فاذا رآه خَفَق قلبُه لإشفاقه. ولو كان المحِب غير مُحِبّ لم يتجشم الزيارة على شدتها. وهذا كقول علي بن جَبَلة:

يأبى من زارني مُكْتتمِاً ... حَذِرَا من كل حِسٍّ فَزِعاَ

فقضاني بعد ما مَطَلا على هذا القول، جملة في موضع الحال. ويجوز وضع الفعل الماضي موضع الحال، لأنه قد يوضع موضع المستقبل في قوله: إن فَعَل فَعَلْت. وفيما حكاه سيبويه من قولهم: والله لافعلتُ، يريدون لا أفعل.

وقد ذهب بعضهم في قوله تعالى:) أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ (إلى أن) حَصِرت (في موضع الحال، وقد فيه منوَّه. ويشهد عندي أن حصِرت في موضع الحال قراْة من قرأ:) أو جاَءُوكم حَصِرَةً صُدُورُهم (.

وأما قوله:) قلب الدليل به قلب المحب (الذي هذه صفته فمعناه: أن فؤاد الدليل وَجِل كقلب المحب الزائر المتوقع للفضيحة.

وقد يجوز أن يكون) قضاني بعد مامطلا (خبراً عن المَهْمَه، أي: كم من مَهْمه قد قضاني بعد مامطلا، قلب الدليل به قلبُ المحب.

وأما) قضاني بعد ما ماطلا (وهو يعنى المهمه، فمعناه: أن المهمه طال عليه، فمطله بالنجاة منه، ثم قضاه بعد حين، وكلاهما مستعار.

وأما قوله:) قلبُ الدليل به قلبُ المُحِبّ (فمعناه: أن قلب المحب يرجو ويخاف. وكذلك قلب الدليل يرجو الهداية ويخشى الضلالة.

) مُحِبِّي قِيامِي مَا لِذَلِكُم النَّصْلِ ... سليماً من الْجرحى بريئا من القتلِ (

طور بواسطة نورين ميديا © 2015