وذكرنا وقتها أن عائشة رضي الله تعالى عنه وأرضاها لما رأت صفوان بن المعطل قالت كلمة، ولم نفصح عن تلك الكلمة حينها من باب التشويق، والآن نذكرها.
عائشة رضي الله عنها جلست مع إحدى أمهات المؤمنين وهي حفصة بعد حادثة الإفك بأشهر، وأخذا يتحادثان ويتبادلان الحديث، فقالت حفصة لـ عائشة رضي الله عنهما وعن أبويهما قالت لها: عندما رأيت صفوان بن المعطل ماذا قلت؟ قالت: قلت: حسبنا الله ونعم الوكيل، فكلمة حسبنا الله ونعم الوكيل من أعظم ما يتحصن به المسلم، قال الله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، وقال الله بعدها: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:174]، ونحن في هذه الحياة الدنيا نرى من الخطوب ونسمع من الفواجع، وهذا لا يسلم منه أحد، والله يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، والدنيا طبعت على هذا ولا انفكاك، لكن حري بالمؤمن أن يتعلم كلمات يقولوها؛ حتى تكون عوناً له من الرب تبارك وتعالى، ومن أعظم هذه الكلمات: حسبنا الله ونعم الوكيل، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه أن صاحب القرن -وهو إسرافيل- قد حنى وأصغى أذنه ينتظر متى يؤمر بالنفخ فينفخ، ثم قال الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم: (قالوا: كيف نقول؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)، فالمؤمن يتدبر المعاني العظيمة في هذه الكلمات، اطمأن قلبه وسكنت نفسه، وهذا مندرج في قول الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، ولا ينبغي للإنسان أن يلجأ إلى أحد غير ربه، فمن خاف من شيء فر منه إلا من خاف من الله فر إليه، ولا أحد يكفي ويمنع ويعطي ويرفع إلا الله جل وعلا.
قالوا عن رجل من السلف يقال له: أبو حاتم أراد الحج فكان كلما عزم على الحج خاف على بناته من بعده، ولم يكن له إلا إناث، فقالت له ابنته الكبرى ذات يوم: يا أبتاه! حج وأوكل أمرنا إلى الله، فأخذ برأي ابنته الكبرى وتوجه إلى الحج، فحين توجه إلى الحج ما أمسوا إلا والفتاة الكبرى ترى صغار إخوتها يتضاغون عند قدميها، ولم يكن عندهم إلا الماء من شدة الفقر، وبيتهم في أطراف البلدة، فأخذت تلجأ إلى ربها وتسأله ألا يفضحها أمام إخوتها، فقدر أن يدخل القرية أحد الأثرياء الأمراء ومعه حاشيته وخدمه عطَّش، فأراد الخدم أن يتقربوا إلى سيدهم فطرقوا أول بيت يقابلونه فكان بيت أبي حاتم، فسألوهم ماء، والماء يا أخي يوجد في بيوت الفقراء وبيوت الأغنياء، فقالوا: هل عندكم من ماء؟ قالوا: نعم، فأعطوهم ماء، فقدر للأمير أن يشرب الماء على حدة الباب، فأخذ يجول بطرفه في البيت فعرف فقرهم، فشرب الماء وأراد أن يكرمهم وهو غاد في سفره، فرمى لهم بصرة فيها مئات الدنانير، فقالت تلك المرأة الفتاة العارفة بربها لما قلبت الصرة، قالت: هذا مخلوق نظر إلينا فاستغنينا، فكيف بنظر أرحم الراحمين إلينا! فالله جل وعلا علمنا على لسان نبيه وفي كتابه أن نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، وهذه أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها ابتليت ذلك الابتلاء، بقيت وحيدة فجاءها رجل غريب، صحيح أنه من أصحاب نبيها صلى الله عليه وسلم، لكن ليس له نسب ولا حرمة، وليس بينهم إلا ما يكون بين الرجل والمرأة، فلما رأته اعتصمت بربها، فقالت: حسبنا الله ونعم الوكيل، والحياة يا أخي! دوائر، فالإنسان قد يبتلى فإن نجح زادت دائرة الابتلاء، فإن نجح زادت دائرة الابتلاء؛ حتى يمحص من الذنوب، فترفع درجاته وتكفر سيئاته.
فـ مريم عليها السلام كانت زاهدة عابدة، لكن كانت زاهدة عابدة في المحراب لا ترى الرجال ولا يرونها، {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران:37]، وفي هذه المواقف كانت مريم زاهدة عبادة وهذا حق من ثناء الله عليها، فقدر لها أن تخرج، فالآن انفكت من المحراب، والدائرة بدأت تتسع، وبدأت تتسع العطايا وتأتي بعد التمحيص والابتلاء.
قيل للشافعي رحمه الله: أيهما أفضل للرجل أن يمكَّن أو يبتلى؟ قال: سبحان الله! وهل يمكَّن حتى يبتلى، فهذه مريم خرجت، فلما خرجت في البرية غاب عنها عين الرقيب، وجاءها جبريل في صورة شاب جميل وسيم تام الخلقة وهي امرأة، لكنها بقيت على دينها وتقواها التي كانت في المحراب، فقالت: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18] ألتجئ إلى الله، ((إِنْ كُنتَ تَقِيًّا)) والذي يظهر لي أن جواب الشرط محذوف، والمعنى: إن كنت تقياً فاتركني، فنجحت في الابتلاء، فلما نجحت في الابتلاء وكانت في البرية كما كانت في المحراب من الله عليها بالعطايا، وسماها صديقة {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19]، فبين لها مقامها ورفيع مكانتها عند الله، بعد ذلك نادتها الملائكة: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:42 - 43].
والذي يعنينا هنا أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها لما وجدت نفسها عرضة للابتلاء لجأت إلى رب الأرض والسماء، فلا أحد يعصم إلا الله، ولا يكفيك إلا الله كما أنه لا يمنعك ولا يعطيك إلا الله، وهذا الحجاج بن يوسف نقم ذات مرة على الحسن البصري أبي سعيد زاهد عصره، فبعث جنده وحرسه أن يأتوا بـ الحسن البصري، وأعد السيف والنطع ليقتله، فلما دخل الحسن حرك شفتيه، فالحاجب الذي على الباب لاحظ أن الحسن حرك شفتيه، فلما دخل تغير الحجاج، فأجلسه بجواره وأخذ يسأله، ويقول: يا أبا سعيد! أنت سيد العلماء، فلما خرج الحسن بعد أن طيبه الحجاج وأعطاه هدية تبعه الحاجب، قال: يا أبا سعيد! والله إنك لتعلم أن الحجاج ما طلبك ليكرمك، وإنما أتى بك ليقتلك، فتغير عليك، لكني رأيتك عندما دخلت من الباب حركت شفتيك فأسألك بالله ماذا كنت تقول؟ فقال الحسن: كنت أقول: اللهم يا ولي نعمتي وملاذي عند كربتي اجعل نقمته علي برداً وسلاماً كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
فتحرر من هذا، بل من القرآن والسنة أن الله وحده من يكفيك، فلا تلجأ إلى زيد ولا عمرو، لا صاحب قبر ولا صاحب أرض، والجأ إلى الواحد الديان يعصمك.