حادثة الإفك

ومسألة رمي عائشة رضي الله تعلى عنها تسمى في عرف أهل السيرة بحادثة الإفك؛ لأن الله قال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11]، وقبل أن أزدلف إلى القصة كاملة ثم أحرر ما فيها من معان زاهرة، أنبه إلى أن كلمة الإفك معناها الكذب، وتقال عندما يريد أحد أن يجعل من الباطل حقاً، ويريد أن يغير الواقع، فيسمى ذلك إفكاً، قال الله جل وعلا: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53]، والمؤتفكة هم قوم لوط لما قلبوا الفطرة وأتوا الذكران من العالمين، فعاملهم الله بالمثل، فقلب عليهم الأرض وجعل عاليها سافلها، قال الله جل وعلا: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82]، هذا الأمر سماه الله إفكاً؛ لأن الأمر انقلب عليهم، فسمى قوم لوط بالمؤتفكة.

وحديث الإفك سمي بحديث الإفك لأن عبد الله بن أبي المنافق المعروف ومن معه من مرضى القلوب أرادوا أن يجعلوا من عائشة الطاهرة المبرأة ومن الفراش النبوي الطاهر الكريم أن يجعلوه عرضة ومقاماً ومكاناً للفواحش، فأرادوا من أن يجعلوا عين الحقيقة باطلاً، وهذا محال، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11].

وعلى عجل أسرد الخبر، ثم أذكر ما فيه من معان زاخرة.

خرجت عائشة رضي الله عنها مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع لما أجريت القرعة، وكانت يوم ذاك صغيرة خفيفة اللحم لم تتجاوز على الكثير أربعة عشر عاماً؛ لأن غزوة المريسيع كانت تقريباً في السنة الخامسة، وعائشة لما مات النبي صلى الله عليه وسلم كان عمرها ثمانية عشر عاماً، وكانت خفيفة البدن قليلة اللحم، فلما كان الجيش عائد وقبل أن يصلوا إلى المدينة كانوا في مكان يسمى اليوم بالعشيرة، وهو إلى الآن موجود قبل المدينة بحوالي ثلاثين كيلو، فأناخ الجيش مطاياه كالعادة في نحر الظهيرة، وذهب كل لشأنه، فخرجت عائشة لبعض حاجتها، وكانت عليها قلادة أهدتها إياها أمها، فلما عادت إلى مكانها لم تجد القلادة، فبدهي أن ترجع إلى المكان الذي ذهبت إليه، فخرجت تبحث عن القلادة، وفي هذه الفترة التي تبحث عنها -والله جل وعلا يحكم ما يشاء فوق عرشه ويقدر ما يريد- قام الجيش ورحل، فعادت عائشة فلم تجد الجيش، فكان كل ما كانت تحمله من هم وما تفكر فيه أن الجيش لا يلبث أن يفقدها فيعود، والذين حملوا الهودج ظنوا أن أم المؤمنين فيه ولم يشعروا بأنها ليست فيه؛ لأنها كانت خفيفة اللحم، ثم عادت عائشة رضي الله عنها وأرضاها إلى المكان الذي فيه الجيش واتكأت على جذع شجرة تنتظر أن يعود إليها أحد، وبقدر الله غلبها النوم، فجاء صفوان بن المعطل، وهو صحابي اشتهر أنه كان كثير النوم، ولأمر ما بقدر الله تأخر عن الجيش، فلما وصل إلى المكان الذي كان الجيش منيخاً فيه رأى أم المؤمنين، والإنسان إذا نام يتكشف فرأى وجهها وعرفها؛ لأنه كان يعرفها قبل أن تنزل آية الحجاب، فلما رآها ماذا قال؟ وفق، والإنسان إذا وفق عند اللحظة الأولى فما بعدها تبع لها، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فينبغي على الإنسان أن يوطن نفسه كيف يتعامل مع الأحداث إذا وقعت، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فأفاقت أم المؤمنين على استرجاعه فاسترجعت، وقالت كلمة سأقولها في آخر الكلام، ثم أدنى منها ناقته وركبت الناقة وهو يقودها ومضوا، وكان الجيش منيخاً والناس في عز الظهيرة ماكثون، وإذا بالناقة يقودها صفوان وعليها أم المؤمنين، فرآها عبد الله بن أبي فقال عليه من الله ما يستحق: امرأة نبيكم مع رجل؟ والله ما سلمت منه ولا سلم منها، ثم أخذ يفرق الكلام ويجمع ويزيد فيه وينقص منه، وعائشة رضي الله عنها لا تدري عن ذلك شيئاً، فشاع الخبر حتى وصل إلى أم مسطح ومسطح فقير من قرابة أبي بكر وكان أبو بكر ينفق عليه، وكانت أمه تتضجر من كون مسطح خاض في الحديث، فأرادت أن تخبر عائشة الخبر، فذات يوم خرجت عائشة مع أم مسطح فعمداً عثرت أم مسطح؛ تريد أن تفتح الباب للكلام، فقالت بعدما عثرت -والإنسان جبلة يا أخي إذا عثر وسقط يردد كلمة فيقول: باسم الله، خير إن شاء الله، فهذا بدهي في الإنسان-: تعس مسطح، فسكتت عائشة، وبعد قليل سقطت مرة أخرى فقالت: تعس مسطح، فتعجبت عائشة كيف تدعين على رجل شهد بدراً هذا وهو ولدك، فأخبرتها الخبر، ففجعت أم المؤمنين وفوجئت، فعادت وقد شعرت من قبل أنها تفقد اللطف الذي تراه في النبي صلى الله عليه وسلم، ثم استأذنت النبي عليه السلام أن تذهب إلى أبويها حتى تستفتح الخبر، فعادت إلى أبويها، وكان الصديق أكمل الناس أدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان على سطح البيت يقرأ القرآن ويبكي، وزوجته أم رومان تبكي وعائشة كذلك، ومع ذلك كان يستحيي أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله عن الخبر، وسكت النبي لأن الوحي سكت، فلما سكت نبي الله سكت أبو بكر، وهذا من كمال الأدب معه صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يستشير الناس فاستشار علياً، فغلبت على علي عصبته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه، فقال: تلميحاً لا تصريحاً النساء غيرها كثير، وأما أسامة فنصح النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقي على عهده، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استشار إحدى أمهات المؤمنين وهي التي كانت تسامي عائشة وتنازعها في المنزلة، فقالت: أهلك ولا نعلم إلا خيراً، فأثنت على عائشة، وهذا من حفظ الله لتلك المرأة العظيمة.

وموضع الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترة أتى إلى عائشة في بيت أبويها وسألها إن كان وقع منها ذنب أن تستغفر أو أن تعترف، فقالت: لا أجد إلا ما قال أبو يوسف -نسيت اسم يعقوب-: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]، وهنا نزل الوحي: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11]، فبرأ الله أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ولما برأها الله قال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (يا عائشة! أما الله فقد برأك، فقالت لها أمها: قومي إلى رسول الله، فاتكأت على محبة رسول الله لها، وعلى أنها بريئة وقالت: والله لا أقوم إليه، ولكن أحمد الله)، فهي لم تفعل هذا من باب أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها لا تعرف قدر رسول الله لا، فهي أم المؤمنين الصادقة الصديقة بنت الصديق، لكنها قالت ذلك مدلة بعظم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015