بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، آخر الأنبياء في الدنيا عصراً، وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأناً وذكرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا لقاءنا متجدد مع لقاءاتنا الموسومة بالمدائح النبوية، هذه اللقاءات التي من خلالها نعرج على بعض القصائد التي قيلت في مدح نبينا صلى الله عليه وسلم، فنستعرض منها أبياتاً ثم نجعل من هذا البيت طريقاً لنا إلى الحديث عن سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، ونحن لا نتكلم في برنامج إنشادي، ولا نحاول أن نقدم أنفسنا كقراء شعر من الطراز الأول، لكن المقصود من ذلك إلقاء الضوء على بعض الأبيات، من خلال هذه الأبيات نصل إلى معاني زاخرة من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، فربنا جل شأنه يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، ولا سبيل إلى الاقتداء به صلى الله عليه وسلم إلا بعد التأمل والنظر والتدبر في سيرته العطرة وأيامه النضرة، ويجب أن يكون ذلك مصحوباً بمحبة عظيمة، وإجلال كبير شرعي له، صلوات الله وسلامه عليه.
مر معنا الكثير من القصائد منها ما وقفنا معه مرة، ومنها ما وقفنا معه أكثر من مرة، واليوم نقف مع قصيدة لـ ابن دقيق العيد، الفقيه الشافعي المعروف، والقصيدة رائية، قالها في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اخترنا منها بعض الأبيات، ثم نعلق على القصيدة كما جرت به العادة.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: يا سائراً نحو الحجاز مشمرًا اجهد فديتك في المسير وفي السرى وتدرع الصبر الجميل ولا تكن في مطلب المجد الأثير مقصرا اقصد إلى حيث المكارم والندى يلقاك وجههما مضيئاً مقمرا وإذا سهرت الليل في طلب العلا فحذار ثم حذار من خدع الكرى إن كَلّت النجب الركائب تارة فأعد لها ذكر الحبيب مكررا وابعث لها سر المدام فإنها بالذكر لا تنفك حتى تسكرا فالقصد حيث النور يشرق ساطعاً والطرف حيث ترى الثرى متعطرا قف بالمنازل والمناهل من لدن وادي قباء إلى حمى أم القرى وإذا رأيت مهابط الوحي التي نشرت على الآفاق نورًا نورا فاعلم بأنك ما رأيت شبيهها مذ كنت في ماضي الزمان ولا يرى شرفا لأمكنة تنزل بينها جبريل عن رب السماء مخبّرا فتأثرت عنه بأحسن بهجة أفدي الجمال مؤثّرًا ومؤثرا فتردد المختار بين بعيدها وقريبها متبدياً متحذرا ومهابة ملأ القلوب بهاؤها واستنزلت كبر الملوك مصغرا نزلت على قدم الزمان لتبع ودنت على بعد المزار لقيصرا هذه بعض أبيات قالها ابن دقيق العيد رحمة الله تعالى عليه في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قرأناها بعد أن اقتطفناها من ديوانه.
فنعلق عليها ونقول: تلحظ أول الأمر أن ابن دقيق العيد تكلم على الحجاز، ثم ذكر قضية أن تلك الأمكنة دنا منها المختار، وتردد في أروقتها صلوات الله وسلامه عليه، ونص على قباء أي الشاعر.
وسنذكر في هذا اللقاء قضية الحجاز وقضية قباء في السيرة العطرة والأيام النضرة لرسولنا صلى الله عليه وسلم، إن شبه الجزيرة العربية كان أغلب أقسامها الجغرافية نجد وتهامة والحجاز، هذه هي الأقطاب الثلاثة لها، والنبي صلى الله عليه وسلم ولد في مكة، وهاجر إلى المدينة وبها توفي، فهو صلى الله عليه وسلم لم يغادر الحجاز كموطن، وإنما غادره عارضاً كخروجه صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ثم عاد.
والذي يعنينا هنا أن الحجاز ورد كلفظة تغنى بها الشعراء وحتى الفقهاء، فمثلاً النبي صلى الله عليه وسلم ورده عنه أنه نهى عن الشرب قائماً، وثبت عنه أنه شرب قائماً صلوات الله وسلامه عليه، كما في الحديث الصحيح (أنه شرب من زمزم وهو قائم) وهذه مسألة اختلف العلماء فيها، وعلاقتها بالموضوع أن الفقهاء عندما أرادوا أن ينظموا هذا الأمر الفقهي شعراً ذكروا أن السنة أن يشرب الإنسان قاعداً، وأن شربه صلى الله عليه وسلم وهو قائم لينقل الأمر من التحريم إلى الجواز، ونظموا في ذلك شعراً يقول قائلهم: إذا جئت تشرب فاقعد تفز بسنة صفوة أهل الحجاز وقد صححوا شربه قائماً وإنما ذاك بيان الجواز فالفقهاء هنا لما نظروا إلى السنة النبوية وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائماً، وثبت عنه أنه شرب قائماً، قالوا: إن النهي هنا ليس لكراهة التحريم، وإنما لكراهة التنزيه، واحتجوا بأن شربه قائماً صلوات الله وسلامه عليه ينقل الأمر من التحريم إلى الكراهة أو إلى بيان الجواز.
وموضوع الشاهد أنهم قالوا: إذا جئت تشرب فاقعد تفز بسنة صفوة أهل الحجاز.
صلوات الله وسلامه عليه، وأنا أسوق هنا الأمر أو الشعر أو البيتين ليس لأمر شعري أو لأمر فقهي، بل لأمر يتعلق بحديثنا عن الحجاز، فهنا نتذكر السيرة في قضية الهجرة، فالحكم على الشيء فرع من تصوره، وإنما يكون ظلمنا للغير، أو ظلمنا على الأشياء ناتج من عدم حكمنا عليها حكماً صحيحاً، وذلك إذا كان الإنسان لا يتصور الموقف كاملاً.