قال المصنف رحمه الله: [ثم إنهم قد يتنازعون في الأصول التي يتوقف إثبات النبوة عليها].
إثبات النبوة يكون بأصل العقل، وقد تثبت النبوة بغير العقل، أي: بغير دليل معجزة، وإلا فليس هناك شك أن المجنون الذي نزع عقله من أوله إلى آخره لا يستوعب هذه المسائل على التفصيل، ولذلك فإن هرقل -كما جاء عن ابن عباس في الصحيحين وغيرهما- لما سأل أبا سفيان عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم، لم يسأله عن حدوث المعجزات الخارقة للعادة، كخروج الماء من بين أصابعه، ونحو ذلك، إنما سأله عن نسبه، وعمن يتبعه، وعن أبيه، وهل كان ملكاً؟
إلخ، وهذه ليست معجزات، إنما هي صفات، ولذلك قال هرقل: (إن يكن ما تقول به حقاً فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم ...) إلخ.
إذاً: النبوة تثبت بالمعجزة، وتثبت بغيرها، والمقصود بالمعجزة هنا: الآية الخارقة للعادة.
قال المصنف رحمه الله: [فطائفة تزعم أن تحسين العقل وتقبيحه داخل في هذه الأصول، وأنه لا يمكن إثبات النبوة بدون ذلك، ويجعلون التكذيب بالقدر مما ينفيه العقل.
وطائفة تزعم أن حدوث العالم من هذه الأصول، وأن العلم بالصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوثه، وإثبات حدوثه لا يمكن إلا بحدوث الأجسام].
قوله: (وأن العلم بالصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوثه)، أي: بإثبات حدوث العالم، وأن إثبات حدوث العالم لا يكون إلا بإثبات كونه جسماً، ومن هنا قالوا: إن الصفات تنفى؛ لأنها تستلزم التجسيم.
قال رحمه الله: [وحدوثها يعلم إما بحدوث الصفات، وإما بحدوث الأفعال القائمة بها، فيجعلون نفي أفعال الرب ونفي صفاته من الأصول التي لا يمكن إثبات النبوة إلا بها.].
فمن قال: إن حدوثها يعلم بحدوث الصفات، فهذا طريق لقوم من أهل الكلام، ومن قال: إن حدوثها يعلم بحدوث الأفعال القائمة بها، فهذا طريق آخر، ولذلك فإن المعتزلة نفت سائر الصفات؛ لأنه لو ثبتت صفة عندهم تقوم بذات الرب؛ لبطل الدليل المصحح عندهم لحدوث العالم، وكذلك متكلمة الصفاتية نفوا ما يتعلق بالصفات الفعلية التي يسمونها: حلول الحوادث؛ لأنهم لو أثبتوها لبطل عندهم الدليل المصحح لحدوث العالم، والدليل المصحح لحدوث العالم هو الدليل المصحح لوجود الصانع.
قال رحمه الله: [ثم هؤلاء لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على نقيض قولهم؛ لظنهم أن العقل عارض السمع -وهو أصله- فيجب تقديمه عليه، والسمع إما أن يؤول، وإما أن يفوض].
قوله: (وهو أصله) أي: أن أصل الدليل السمعي عندهم هو العقل؛ وذلك لأنهم يقولون: إن دليل ثبوت السمع هو النبوة، والنبوة دليلها المعجزة.
وهذا غلط من وجهين:
الوجه الأول: أن النبوة تثبت بغير المعجزة.
الوجه الثاني: أنه لو سلم جدلاً أن الدليل العقلي هو الذي صدق المعجزة، ودليل المعجزة بصدقه صدقت النبوة، فإن هذا دليل معين من أدلة العقل، ومعلوم أن الدليل المعين لا يلزم أن يكون حكمه مطرداً في سائر الأدلة، وإلا لزم من ذلك التصديق بكل ما يقال أنه عقلي، وهذا معلوم الامتناع بين العقلاء، فإن عقول بني آدم بينها قدر من الاختلاف والتضاد والتناقض في أحكامها العقلية.
إذاً: عندما يقولون: لو قدمنا السمعي للزم من ذلك الطعن في أصل ثبوت السمعي، يقال: هذا ليس بلازم؛ لأنه يمكن أن نقدم السمعي على العقلي الذي عارضه.
أما الدليل العقلي الذي قالوا: به ثبتت النبوة، فهل عارض السمع أو أثبته؟ فإن قالوا: إن به ثبت السمع، فمعناه: أنه عارضه أو صدقه، فإذا كان صدقه فهذا لا جدال فيه، ولا يرد في مسألة تعارض العقل والنقل، إنما الكلام هو في العقلي المعارض، وهذا العقلي ليس هو الذي أثبت السمع، مع أن هذا الكلام -كما سبق- ليس محكماً من أصله.
قال المصنف رحمه الله: [وهم أيضاً عند التحقيق لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على وفق قولهم، لما تقدم.
وهؤلاء يضلون من وجوه: منها: ظنهم أن السمع بطريق الخبر تارة، وليس الأمر كذلك؛ بل القرآن يبين من الدلائل العقلية التي تعلم بها المطالب الدينية ما لا يوجد مثله في كلام أئمة النقل، فتكون هذه المطالب شرعية عقلية].
قوله: (منها: ظنهم أن السمع بطريق الخبر تارة)، كلمة (تارة) ليست صحيحة؛ بل هي غلط في السياق، وقد أشار المحقق إلى ذلك؛ لأن مقصود المصنف هو ظنهم أن السمع بطريق الخبر المجرد، أي: أن السمع هو الخبر المجرد، أما إذا قيل: إن السمع هو الخبر المبني على صدق المخبر تارة، فيلزم أن يكون ظنهم صحيحاً؛ لأن السمع هو خبر المخبر المبني على صدق هذا المخبر تارة، كقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فهذا حكمه -كما سبق- ليس من ابتداع العقل.
إذاً: إما أن يكون السياق هو: (ظنهم أن السمع بطريق الخبر المجرد)، وهنا يكون الكلام صحيحاً، وإما أن يكون السياق: (ظنهم أن السمع بطريق الخبر تارة)، وهذا الكلام خطأ؛ لأنهم لو ظنوه تارةً لكان ظنهم صحيحاً، وإنما غلطهم أنهم ظنوه مطرداً.
وقد يقال: إن السمع طريق الخبر المجرد، أي: المجرد عن الحكم العقلي، المبني على الإطلاق، بمعنى أنه في سائر موارده يكون كذلك، هذا هو وجه الغلط، وأما أن في القرآن ما هو سمعي محض، أي: ليس مبنياً على أوائل الحكم العقلي المحصل له قبل ورود السمع فيه، فهذا لا جدال في عدم وجوده في القرآن.
قال رحمه الله: [ومنها: ظنهم أن الرسول لا يعلم صدقه إلا بالطريق المعينة التي سلكوها، وهم مخطئون قطعاً في انحصار طريق تصديقه فيما ذكروه، فإن طرق العلم بصدق الرسول كثيرة، كما قد بسط في غير هذا الموضع].
إن خطأهم ليس في هذه الطريق وحدها؛ بل إن جمهور ما يذكرون من الطرق المحصلة للنبوة هي تحصيل للنبوة من وجه، فيكون غلطهم من وجهين:
الوجه الأول: أنهم قصروا طريق تحصيل النبوة على هذا الطريق.
الوجه الثاني: أنهم ربما استعملوا طرقاً قاصرة في إثبات النبوة، مع أن ثمة طرقاً أصدق منها وأحكم في نفس الأمر.
قال رحمه الله: [ومنها: ظنهم أن الطريق التي سلكوها صحيحة، وقد تكون باطلة].
وإن كان جمهور ما يذكرونه في إثبات النبوة صحيحاً، ومنه ما قد يكون باطلاً، وإنما يؤخذ عليهم أنهم قصروا الطريق عليه، واستعملوه هو وفي الباب ما هو أولى منه.
قال رحمه الله: [ومنها: ظنهم أن ما عارضوا به السمع معلوم بالعقل، ويكونون غالطين في ذلك، فإنه إذا وزن بالميزان الصحيح وجد ما يعارض الكتاب والسنة من المجهولات لا من المعقولات، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع].
لأن المعارض للسمعي إما أن يكون سمعياً، وإما أن يكون عقلياً، وإما أن يكون لا سمعياً ولا عقلياً، فأما إن كان سمعياً فهذا ممتنع؛ لأنه يلزم فيه التعارض بين السمعيين، وهذا ممتنع، وأما إن كان عقلياً، فإنه يعود القول فيه إلى ما سبقت الإشارة إليه من الأوجه, وأما إن فرض أنه لا سمعي ولا عقلي، فيقال: ليس في الأمر ما يكون كذلك؛ بل الحكم إما أن يكون سمعياً، وإما أن يكون عقلياً.