لذلك أورد نفاة الصفات الفعلية -كالنزول والمجيء ونحوها- أوردوا إشكالاً لابد من الجواب عليه، فقالوا: إن النزول والمجيء ونحوها من الصفات إذا لم تفسر بالتأويل على طريقتهم يلزم من ذلك إما أن يكون كمالاً، وإما أن يكون نقصاً، فإن قلتم: إنه نقص، فالله منزه عنه، وإن قلتم: إنه كمال؛ لزم أن يكون هذا الكمال قد فاته قبل حدوث هذا الفعل المعين، وفوات الكمال نقص.
وهناك عدة أجوبة عن هذا الإشكال، وهناك أجوبة صحيحة ولكنها ليست ملزمة, وهناك أيضاً أجوبة صحيحة ولكنها ليست محكمة.
ومن طرق الجواب أن يقال: إن هذه الصفات ذكرت على نوع من الحدوث، وما كان حادثاً امتنع أن يكون قديماً في العقل، فإن الحدث ينافي القدم، والشيء إذا وصف بأنه حادث امتنع أن يوصف بأنه قديم، فيقال هنا: إن هذه الصفات ذكرت على معنى الحدوث، أي: أنها متعلقة بمشيئة الرب، وما كان حادثاً امتنع أن يكون قديماً, وما كان ممتنعاً لم يكن عدمه نقصاً؛ لأن النقص هو فوات الكمال الممكن، وليس هو فوات الممتنع، فما كان ممتنعاً فإنه يمتنع أن يكون فواته نقصاً؛ لأنه ممتنع، والكمال يتعلق بالأمور الوجودية.
وهذا جواب محكم من جهة العقل.
وهناك جواب من جهة القياس: وهو أنه يستلزم التناقض عندهم، فإنه يمكن أن يقلب عليهم هذا الباب بطريقة بسيطة في الإدراك، وهي قوية من جهة الحكم أيضاً، فيقال: إن هذا يلزمكم في خلق السماوات والأرض، فإن الله هو الخالق للسماوات والأرض، فإما أن تقولوا: إن خلقه لهما كمال، وإما تقولوا: إنه نقص.
فسيقولون: إنه كمال, وحينئذ فما كان جوابهم عن خلقه للسماوات والأرض، فهو الجواب عن نزوله، وإن قالوا: إن النزول إذا قيل: إنه كمال؛ لزم أن يكون قد فاته من قبل، وفوات الكمال نقص.
قيل: فخلقه للسماوات والأرض أزلاً ممتنع؛ لأن ما كان مخلوقاً امتنع أنه يكون أزلياً، فإن الله هو المختص بالأولية المطلقة، فما كان حادثاً امتنع أن يكون قديماً.
وهذا من سفسطة العقل.
وهذا الدليل هو الدليل المحكم لنفي الصفات الفعلية، وهو ما يذكره محمد بن عمر الرازي ويسميه: الدليل المركب، ومعلوم أن أصحابه هم الذين ينفون أو يتأولون الصفات الفعلية، وهي ما يسميها أصحاب أبي الحسن الأشعري: حلول الحوادث، فجاء الرازي -ولا سيما في آخر أطواره- وقال: إن ما عمل به أصحابنا في التأويل لهذا الباب فهي علل منقوصة، وجاء بعلل أصحابه، ثم أجاب عنها، ورد عليها، وإذا لم يرد على الحجة فربما اكتفى بإيراد السؤالات عليها، فقال: "إن سائر ما ذكروه إما أن يرد عليه الجواب، أو يرد عليه سؤال"، ثم قال: "وإن الحجة الصحيحة الاعتماد في هذا على الدليل المركب"، وقد ذكر أن أصحابه اعتمدوا على الدليل العقلي، وقالوا: أما الاعتماد على السمع وحده فلا؛ لأن السمع في آيات كثيرة ظاهره الإثبات لما هو من حلول الحوادث.
ثم قال: "وحججهم في هذا إما مجاب عنها، وإما عليها سؤالات" , فهو عطل الحجة السمعية وحدها، والحجة العقلية وحدها، وقال: "إنما المعتبر في نفي حلول الحوادث هو الدليل المركب من السمع والعقل"، ثم جاء بالدليل المركب، فجعل مادة العقل لها السبق في هذا الدليل، وأما مادة السمع فقد قال: "إننا نقول: إن كانت ناقصاً، فإن الله منزه عن النقص بالإجماع"، فجعل كلمة (الإجماع) هي الوجه السمعي في دليله، فإن الإجماع كلمة سمعية وليست عقلية.
وهذا من خطئه، فإن تنزيه الله عن النقص يعلم بالعقل، وإن كان بالضرورة يعلم بالسمع أو بالإجماع ونحو ذلك.