قال المصنف رحمه الله: [فيعلم قطعاً أنه ليس من جنس المخلوقات، لا الملائكة، ولا السماوات، ولا الكواكب، ولا الهواء، ولا الماء، ولا الأرض، ولا الآدميين، ولا أبدانهم ولا أنفسهم، ولا غير ذلك؛ بل يعلم أن حقيقته عن مماثلة شيء من الموجودات أبعد من سائر الحقائق، وأن مماثلته لشيء منها أبعد من مماثلة حقيقة شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر].
وهذا هو معنى قول الحق سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ولذلك فكل صفة لا يقبلها الله عز وجل، فإنها تكون مما ينزه الله سبحانه وتعالى عنها من جهة حقيقتها وماهيتها اللائقة بالمخلوق، وأما الاشتراك في اسمها، أو في المعنى الكلي والذهني، فهذا باب آخر.
قال رحمه الله: [فإن الحقيقتين إذا تماثلتا جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى, ووجب لها ما وجب لها، وامتنع عليها ما امتنع عليها، فيلزم أن يجوز على الخالق القديم الواجب بنفسه ما يجوز على المحدث المخلوق من العدم والحاجة، وأن يثبت لهذا ما يثبت لذاك من الوجود والغنى، فيكون الشيء الواحد واجباً بنفسه غير واجب بنفسه، موجوداً معدوماً، وذلك جمع بين النقيضين.
وهذا مما يعلم به بطلان قول المشبهة الذين يقولون: بصر كبصري، ويد كيدي، ونحو ذلك، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.].
قوله: (وهذا جمع بين النقيضين)؛ لأنه إذا ثبتت صفة عن جهة التماثل بين الخالق والمخلوق، فيلزم على ذلك عقلاً أحد وجهين:
الوجه الأول: دخول مسألة الإمكان على الخالق، أي: عدم وجوب الوجود، أو عدم الربوبية.
الوجه الثاني: دخول مادة من الربوبية على المخلوق.
فمن أثبتها بطريقة تناسب الرب سبحانه وتعالى، فيلزم إذا جعل هذا من باب التماثل أن يكون المخلوق موصوفاً بما هو من مقام الربوبية، وإذا فسرها على معنى يناسب المخلوقين، وجعلها للخالق؛ لزم أن يكون الخالق متصفاً بصفات المخلوقين على جهة التشابه والتماثل في الخصائص والإضافات، وهذا إسقاط لمقام ربوبيته سبحانه وتعالى.
قال المصنف رحمه الله: [وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له، وما ينزه عنه، واستيفاء طرق ذلك؛ لأن هذا مبسوط في غير هذا الموضع، وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك وطرقه، وما سكت عنه السمع نفياً وإثباتاً، ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه سكتنا عنه، فلا نثبته ولا ننفيه، فنثبت ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكت عما لا نعلم نفيه ولا إثباته، والله سبحانه وتعالى أعلم].
هذه هي الخاتمة للقاعدة السادسة، وقد بين فيها نوعاً من الاحتراز في كلامه، أي: أنه لا يفهم على غير وجهه ومراده، وبين أنه لم يقصد التنبيه إلى الطرق المفصلة، وإنما اشتغل بطريقة فيها إجمال، والطرق التي استعملت في هذا المقام ثلاث طرق:
الطريقة الأولى: هي الطريقة الصحيحة المفصلة المحكمة؛ كمسألة: أن الله مستحق للكمال منزه عن النقص، وعن مماثلة غيره؛ فإن هذه طريقة محكمة عقلاً وشرعاً، ومحكمة بين المسلمين أجمعين.
الطريقة الثانية: هي الطرق الباطلة، وهذه لم يتكلف المصنف كثيراً في هذا المقام بذكرها على التفصيل؛ لكون المقام لا يسع ذلك، ولكونها بينة البطلان.
الطريقة الثالثة: وهي الطرق المجملة، كمسألة التشبيه والتجسيم، فإن هذه الطريقة قد استعملت في مقام الإثبات والنفي، وهي طريقة إذا كانت وحدها مجردة وصفت بأنها طريقة مجملة، وجمهور مادة هذا الإجمال الذي دخلها هو من المتكلمين أنفسهم، والدليل على ذلك: أن كل ما نفوه من الصفات التي أثبتها أهل السنة يجعلون الموجب لنفيها: أن إثباتها يستلزم التشبيه والتجسيم، فهي طريقة دخل فيها الإجمال، وإن كان جمهور هذا الإجمال إنما جاء بسببهم.
ومن هنا صارت طريقة غير محكمة إذا ما ذكرت مجردة، ويزيد الأمر سوءاً إذا ما فسرت تفسيراً باطلاً، فإن القصور في التقرير إما أن يكون قصوراً في الألفاظ، وإما أن يكون قصوراً في المعاني، فمن عبر بها وحدها ففسرها تفسيراً صحيحاً قيل: تفسيره صحيح، ولكنه لو قرنها بالتفسيرات المفصلة لكان أحكم، بخلاف من استعملها وحدها وفسرها تفسيراً غلطاً؛ فإن هذا يكون قد قصر لفظاً ومعنى.