ظهور المدارس الفقهية

قال المصنف رحمه الله: [بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام، مفتي الأنام، أوحد عصره، وفريد دهره، ناصر السنة، وقامع البدعة، تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن تيمية الحراني رضي الله عنه وأرضاه].

هذه الرسالة معروفة بأنها لـ شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، وهو من علماء الحنابلة -من جهة الأصول الفقهية- هو وأهل بيته، فإنهم كانوا من شيوخ المذهب الحنبلي، وإن كان شيخ الإسلام عُرِف بعنايته بالتحقيق، وعدم التقيد بمسألة التقليد على المذهب الحنبلي أو غيره من المذاهب، ولذلك لا يعد حنبلياً على معنى التقليد.

ومن هنا نقول: إن من انتسب إلى مذهب من المذاهب الأربعة هم الغالب من أهل العلم بعد طبقة القرون الثلاثة الفاضلة، وقد ظهرت جملة من المدارس، وإن كان الذي استقر منها خمس مدارس، وهي:

1 - المدرسة الحنفية.

2 - المدرسة المالكية.

3 - المدرسة الشافعية.

4 - المدرسة الحنبلية.

5 - المدرسة الظاهرية.

فهذه المدارس الخمس من المدارس الفقهية المعروفة هي التي استقرت وبقيت، إلا أن كان المذهب الظاهري كان ضعيفاً، ثم نشره وبسطه أبو محمد ابن حزم.

وأصول هذه المدارس الخمس أصول سلفية، وأئمتها كلهم من الأئمة المعروفين بالتحقيق وصحة الاعتقاد، وإن كان قد أخذ على أبي حنيفة مسألة في الإيمان، وهي مسألة لا تعد من بدع العقائد الكبرى، وإنما هي -كما ذكر الإمام ابن تيمية وغيره- من بدع الأقوال، وكذلك داود بن علي الظاهري أخذت عليه مسائل يسيرة لفظية ليست من أصول الاعتقاد، وله كلمات تعقبه عليها جملة الإمام أحمد في بعض كلماته، لكن أصوله -أعني: داود بن علي الظاهري - هي أصول أهل السنة والجماعة.

فهؤلاء الأئمة أصولهم واحدة من حيث الاعتقاد، ثم اختلفوا من حيث المذاهب، وثمة قدر من الوفاق فيما بينهم، ولاسيما بين الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، فهؤلاء أكثر توافقاً من جهة الأصول، ثم يليهم الإمام أبو حنيفة، ثم داود بن علي؛ فإن له أصولاً اختص بها في بعض المسائل، وإن كان يقال: إن داود بن علي رحمه الله لم يشرح سائر هذه الأصول شرحاً مستفيضاً، بمعنى أنه تكلم بجمل، ثم جاء أبو محمد ابن حزم وبسط هذه الجمل.

فلا يلزم أن يكون سائر ما أضافه ابن حزم إلى المذهب الظاهري منضبطاً في كلام داود بن علي، فإنه متقدم عنه كثيراً، ولم يفصح بكثير من هذه التفصيلات.

ولا يقال عن مذهب من هذه المذاهب الخمسة: إنه أصح المذاهب، فإن هذا لا يقوله إلا مقلد متعصب لمذهبه.

وإنما الصواب أن يقال: إن هذه المذاهب الخمسة في كلام الفقهاء، أو حتى ما يضاف إلى أحد من الأئمة المتقدمين، وأخصهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن بعدهم من التابعين ومن بعدهم، فإن أي قول من الأقوال الفقهية يضاف لإمام متقدم -سواء كان هذا الإمام أحد هؤلاء الخمسة، أو من قبلهم، أو من عاصرهم- فإنه يكون قولاً له وجهه، وينظر في دليله من جهة الكتاب والسنة والإجماع، وأصول الاستدلال المعروفة.

إذاً: لا يصح الانتصار المطلق لمذهب من المذاهب الفقهية، وإن كان لا يُمنع من التأصيل على مذهب من هذه المذاهب الأربعة، وثمة فرق بين مسألة التأصيل على مذهب واحد، كما هو شأن المحققين من أصحاب الأئمة الأربعة، وبين التقيد بسائر فروع المذهب وفتاواه ومحتملاته، وما إلى ذلك مما يفصله فقهاء المذاهب، فمن التزم بسائر الفروع فهذا لا ينبغي إلا أن يكون مقاماً لمقلد، سواء كان عامياً أو مبتدئاً في العلم، فهذا هو الذي قد يسعه هذا المقام، وأما من بان له الدليل على خلاف مذهب فقهي -وهو أهل للنظر في الدليل- فإنه يلزمه أن يكون متبعاً لصريح الدليل أو ظاهره، أو ما دل عليه الدليل بحسب درجات الاستدلال.

فالمقصود: أن شيخ الإسلام ابن تيمية أصوله -في الجملة- حنبلية، مع أنه لم يتعصب أو يلتزم المذهب الحنبلي في جميع فروعه ومسائله.

وقد ضمن شيخ الإسلام هذه الرسالة أصولاً من أصول أهل السنة والجماعة، كما ضمنها أصولاً من أصول الرد على المخالفين.

وبالمناسبة: فإن ما كتبه علماء السنة والجماعة في الاعتقاد يقع على أحد وجهين:

الوجه الأول: أن يكون تقريراً للمعتقد.

الوجه الثاني: أن يكون رداً على المخالف.

وهذه الرسالة تضمنت هذا وهذا في مقام الشرع والقدر، وفي مقام التوحيد والصفات.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015