قال المصنف رحمه الله: [ولهذا يقول هؤلاء: إن الشيئين لا يشتبهان من وجه ويختلفان من وجه.
وأكثر العقلاء على خلاف ذلك، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبينا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفى ذلك، وبينا فساد قول من يقول بتماثلها].
قد يقول قائل -وهذا سؤال قد يرد على البعض ولا سيما الناظر في كتب المتكلمين-: إن هؤلاء أوتوا ذكاءً، وعندهم سعة في العلم في مسائل النظر والجدل والعقليات وما إلى ذلك، فلماذا اضطرب أمرهم؟
فيقال: إن الاضطراب إنما دخل عليهم ليس لنقص في ذكائهم، ولا لنقص في أحاطتهم بالمعارف التي قد يدركها من هم دونهم بمراتب في العلم، ولكنهم لما فرضوا بعض المعاني، وأرادوا تصديق هذه المعاني التي فرضوها؛ اصطدموا بقدر متسلسل من الحقائق العقلية والحقائق الشرعية، فذهبوا يتأولون الشرعي، ويوردون السؤال على العقلي، ومن هنا حصل عندهم هذا الاضطراب، وإلا فإنهم أهل نظر، ولذلك فإن محمد بن عمر الرازي -وهو عمدة المتأخرين من أصحاب الأشعري - رجل واسع العلم، وفقيه، وأصولي، وقد صنف كتباً مطولة؛ كالمطالب العالية، والمباحث المشرقية، وصنف في آخر عمره كتاباً سماه: (أقسام اللذات)، وقال في هذا الكتاب: "إن لكل قوة وحاسة لذة، ولذة العقل العلم، وأشرف العلم: العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله"، ثم قال: "وعلى كل واحدةٍ منها عقدة لم تنحل"، أي: أن عنده إشكالاً، ثم قال: "لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً"، أي: أن من عنده شبهة فهو بمنزلة المريض المعلول، وهذه الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، لا يجد جواباً محققاً فيها.
وقوله: (ولا تروي غليلاً) أي: أن الرجل الذي ليس هو صاحب شبهة ولا ثقافة معينة، هو بمنزلة العطشان، فهو يريد أن يعرف الحقائق من جهة المناهج الكلامية والفلسفية، ولكنها لا ترويه، فهي لا تصلح لا لمن جهله بسيطاً، ولا لمن جهله مركباً، أي أنها لا تدفع شبهة صاحب الجهل المركب.
قال: "ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن".
وكذلك أبو حامد الغزالي، خاب في هذا الباب، وانتهى إلى أن هذا الباب لا يحصل نتائج علمية دقيقة، لكنه قال: إنه باب من باب المناظرة، ودفع صول الصائلين على الإسلام، فنجيبهم بهذه الطرق، وهذه التشقيقات، وهذه النظريات، وهذه المحاولات العقلية.
إذاً: هؤلاء لم ينقص مقامهم في الذكاء، أو في ذات المعارف؛ لكنهم لما وضعوا أصولاً ليست محكمة، وتعصبوا لها، وتسلسل تعصبهم؛ وصلوا إلى هذا المقام، ولذلك فإن من وفقه الله إلى نوع من الصدق، فإنه ينفك انفكاكاً ليس بالضرورة أنه يعرف الحق المفصل، لكنه يعرف أن الذي هو فيه كان غلطاً؛ كأمثال أبي الحسن الأشعري لما أعلن رجوعه عن الاعتزال، والجويني لما أعلن رجوعه عن التأويل، والغزالي لما أعلن رجوعه عن الطريقة الكلامية، وتمسك بالطريقة الصوفية، وإن كان لم يحقق الصواب مع أنه كان قاصداً له.