ثبوت الحقائق يعرف بصدق دليلها لا بدفع الشبهات عنها

قال المصنف رحمه الله: [وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات، حتى آل الأمر بمن يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود، فظنوا أنه هو، فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق، مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء، أو أن يكون إياه، أو متحداً به، أو حالاً فيه من الخالق مع المخلوق].

وذلك أن ثبوت الحقائق يعرف بصدق دليلها، وليس بدفع الشبهة المعينة عنها، وهذه قاعدة في التحصيل، وهي التي جاء ذكرها في القرآن وفي هدي الصحابة رضي الله عنهم: أن الحقائق تصدق باعتبار دليل الحق الموجب لتصديقها، وليس بالضرورة أن التصديق بالحقائق يكون طريقه مستلزماً دفع التسلسل من الشبهات.

ولذلك فإن أهل العلم والبصراء يعرفون الحق بدليله، ويدفعون الشبه التي تعرض له، لكن العامة من المسلمين قد استقر عندهم كثير من الحق، أو استقر عندهم الحق في الجملة، مع أنه قد لا تقوى عقولهم على الجواب عن كل ما يعارض به المعارض من الشبهات، فلو أُورد عليهم إيراد -مثلاً- في بعض المسائل، فإن عدم العلم بالجواب عن هذه الشبهة المعينة لا يحصل علماً أن هذا الحق الذي كان عليه تبين أنه ليس كذلك؛ بل يقال: إن الأصل أن الحق يعرف بدليله، وهذا هو الذي يناسب العامة ويناسب الخاصة، وإن كان الخاصة -أي: أهل العلم- لابد لهم مع هذا من دفع الشبهات.

ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الدعوة وما إلى ذلك جعلها في نفر من أهل الإيمان فقال: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة:122] فما يتعلق بمسألة التصحيح هذا لا تستطيعه العامة؛ وعليه: فالعامة يعرفون الحق بدليله، وليس بفساد الشبه العارضة عليه، إلا إذا كان هناك شبهة شاعت بين العامة، فهنا يكون من الحكمة الشرعية أن يحدث العامة بدفعها، كما اعترض بعض الكفار على إحياء الأموات، فجاء جوابه في القرآن في قول الله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78].

إذاً: المنهج الشرعي أن العامة لا يحدثون بالشبهات ثم يقصد إلى الجواب عنها إلا إذا علم أن هذه الشبهة قد شاعت بينهم، وهذا يختلف باختلاف البيئات، واختلاف الأزمنة والأمكنة، وإلا فإن الأصل: أن العامة يحدثون بدلائل الحق الشرعية والعقلية القاضية بصدق الحق، وأما أنه يتسلسل معهم في مسائل الشبه ودفعها، فهذا ليس من الحكمة، وعقولهم لا تقوى على الاستتباع، وربما كان المقرر بمسألة الشبهة ودفعها ضعيفاً في دفعها قوياً في تقريرها ..

وما إلى ذلك، وهذا مما ينبغي أن يلاحظ في مسائل تعليم العقيدة.

وقد سبق أن أشير إلى أن ثمة فرقاً بين تقرير العقيدة وبين الرد على المخالفين، ولا ينبغي أن يخلط هذا المقام بهذا المقام، فإن مقام تقرير العقيدة له وجه: وهو تعليم الحق بدليله، ودفع الشبه الشائعة، أما الاستفصال في مقام الرد فإن هذا يكون وجهاً آخر من أوجه التعليم، وهو ليس من شأن العامة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015