قال المصنف رحمه الله: [فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، فصفاته كذاته ليست مثل صفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه].
وهذا من مدارك العقل الأول: أن صفة كل موصوف تكون مناسبة له، ولهذا لم يقع لعاقل أن يفسر صفة من صفات المخلوقين بصفات الله؛ بل ولا بصفة مخلوق آخر، فإذا علم ذلك فإن ما وصف الله به نفسه من الصفات لا بد أن يكون لائقاً به.
وأما أن يكون موجب الرد لظواهر القرآن والسنة هو أنه قد يفهم منها هذا الفهم الغلط، فإنه يقال: إن هذا الفهم لو كان ممكناً لمدارك العقول؛ لسبق إلى عقول قوم لا يؤمنون بأن محمداً رسول الله، فإن العرب في جاهليتهم لما سمعوا القرآن، لم يعترضوا أبداً ويقولوا: إن هذا السياق في صفات الله في اليدين أو في غيرها يفهم منه في لساننا أن الله موصوف بكذا وكذا، ولا سيما أن الجاهليين كانوا يؤمنون برب، ومفهوم الربوبية عندهم من حيث الأصل مفهوم كمال، وهو أن الله هو الخالق للسماوات والأرض، وأنه هو الرب ..
ونحو ذلك، فلو كان يفهم من سياق آيات الصفات أنها من باب النقص، وأن لسان العرب يقتضي هذا التفسير، كما زعم الزاعمون من أئمة التعطيل؛ لفهم ذلك العرب الجاهليون، ولاعترضوا على القرآن بذلك، ولكنهم قالوا في اعتراضهم عليه: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] فلماذا لم يفهموا من آيات الصفات ما هو من التشبيه، فيكون من طعنهم على القرآن، ومن طعنهم على صاحب النبوة: أن صاحب النبوة قد جاء بتشبيه الخالق وإسقاط مقام الربوبية؟!
إذاً: فعدم اعتراض العرب على آيات الصفات يعد دليلاً على أن هذه السياقات في كلامهم العربي لا تقتضي التشبيه، ويدل على أن هذه السياقات في عقولهم لا تقتضي نقصاً وتعطيلاً, ولذلك إذا قال قائل: إن النصوص بحاجة إلى التأويل، قيل: لو كانت بحاجة إلى التأويل للزم أن يعترض العرب على ظاهره.
وقد يجيب المعتزلة على هذا الكلام فيقولون: إن العرب سكتوا ولم يطعنوا على القرآن بهذا لأنهم يعرفون بأن لها تأويلاً، ونقول: من هو الذي يسكت لأنه يعرف أن لها تأويلاً لو جاز هذا الكلام؟ ذلك هو المؤمن، أما الذي يريد أن يطعن على القرآن، أو على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يكفيه في الطعن أن يقول: إن ظاهر هذا الكلام النقص.
والعرب قد قالوا كلاماً هم يعرفون غلطه، فقالوا عن النبي: إنه مجنون, وساحر، وكاهن، وغير ذلك، وهذا يدل على أن الحجج قد تناهت عندهم، حتى استعملوا كلاماً هم يفهمون غلطه، وحتى نساؤهم وصبيانهم يعرفون أن هذا الرجل ليس مجنوناً، فهل يعقل أنهم وصلوا إلى هذا الحد من الانغلاق في الحجج مع أنه كان يمكنهم أن يقولوا: إن القرآن قد نطق بظواهر لا تليق برب العالمين؟!
لو كان هذا متبادراً أو ممكناً في عقولهم أو في لسانهم، لكان أقوى بكثير من الحجج التي يستعملها هؤلاء في الاعتراض على القرآن.
أما قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25]، {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103] فإن هذا من باب التحكم، فلما لم يجدوا دليلاً على أن محمداً مجنون قالوا هذا الكلام.
ومن الأدلة على إثبات الصفات أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه القرآن، وكان يحدث ويخبر عن ربه عز وجل، وما نقل أن أحداً لا من المسلمين ولا من الذي وفدوا من المشركين الذي أسلموا أو لم يسلموا -لم ينقل أن أحداً سمع هذا القرآن أو هذا الحديث فاستشكل صفة واحدة، مما يدل على أن المعاني معروفة ومستقرة.
وهذا الذي ذكر في كلام العرب الجاهلين، كما أنه يبطل التأويل، فهو أيضاً يبطل التفويض؛ لأنه لو كان الحق في تفويضها، لكان من اعتراض العرب: أنك يا محمد تأتي بكلام أو ينزل عليك كلام تقول: إنه كلام الله، وهو كلام غير معقول الحقائق، فهذا من الأمور البدهية: أن العرب في جاهليتهم كانوا يقرون بجملة الصفات، وإن كان تفصيلها لا يتلقى إلا عن صاحب الكتاب عليه الصلاة والسلام.
قال رحمه الله: [كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر)، فشبه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي].
قوله: (فشبه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي):
فإن الله منزه عن مشابهة خلقه، ولذلك قال بعض المخالفين: إن هذا من نصوص التشبيه، فيقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدث به لم يستشكل أحد من أصحابه أو يتبادر إلى فهمه ما هو من التشبيه، إنما شبه عليه الصلاة والسلام الرؤية بالرؤية، وليس هذا من باب التشبيه الذي هو تشبيه المرئي بالمرئي.
وهذا التشابه ليس من باب المطابقة التامة، فإن الله سبحانه وتعالى ليس كخلقه، لكنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يبين أنهم يرون ربهم حقيقة كما يرون القمر ليلة البدر، وكما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، لا يضامون في رؤيته.