قال المصنف رحمه الله: [والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين: تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجاً إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك، وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ؛ لاعتقادهم أنه باطل].
أي أنهم يفسرون الآية بمعنى من معاني التشبيه والتمثيل، فيقولون: إن ظاهر الآية يدل على كذا وكذا، ويكون هذا الذي فسروا الآية به غلطاً، أي: أنه ليس لائقاً بالله سبحانه وتعالى، ويتفق أهل السنة معهم على أن هذا المعنى ليس لائقاً بالله، فإذا فسروها بذلك قالوا: فهذا ظاهر القرآن, فهو يحتاج إلى تأويل.
والحق أن معنى الآية ليس هو ما فسروها به ابتداء وسموه ظاهراً، ولا ما فسَّروها به ثانياً وسموه تأويلاً؛ بل إن معناها يكون صحيحاً مناسباً ليس من باب التشبيه، ولا من باب النفي والتعطيل الذي سموه تأويلاً.
فمثلاً: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] يقولون: إن ظاهر هذه الآية أنه استوى مثل جلوس المخلوق على شيء مخلوق، وهذا يلزم منه قدم هذا المخلوق معه، ويلزم منه مماسة، ويلزم منه تحيزات، ويلزم منه حاجة الباري إلى الاستواء على العرش، أو إلى العرش، وغير ذلك من الكلمات التي يقحمونها على هذا النص.
فهذا المعنى -أي: أنه محتاج إلى العرش، وليس غنياً عما سواه ونحو ذلك- لا شك أن الله منزه عنه؛ ولذلك يتأولون الآية فيقولون: إن المخرج من هذا التفسير الظاهر أن يقال: إن (استوى) بمعنى: استولى.
فيكون الجواب هنا: أن تفسير الآية بالمعنى الأول الذي سميتموه ظاهراً، وبالمعنى الثاني كلاهما غلط، وثمة معنى ثالث وهو المعنى الصحيح، وهو أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه، أي: علا على عرشه علواً يليق بجلاله، وهذا المعنى لا يلزم فيه تلك اللوازم التي ادعوها لازمة للتفسير الأول.
وقوله: (وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ؛ لاعتقادهم أنه باطل):
هذا هو الوجه الثاني من غلطهم، وهو أنهم ربما قالوا: إن ظاهر النص هو كذا وكذا، وهو ليس مراداً، ويكون تفسيرهم لظاهر النص تفسيراً صحيحاً, لكنهم ينازعون في نفيه، ولا ينازعون في أصل التفسير.
فمثلاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن)، قالوا: إن ظاهر هذا الحديث يدل على أن الله موصوف بهذه الصفة وهي الأصابع، وهذا ليس مراداً، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] قالوا: إن ظاهر ذلك أن الله خلق آدم بيديه، وهذا المعنى صحيح؛ لأن الله أخبر عن نفسه كذلك.
إذاً: فهم ربما فسروا الآية بمعنىً حق، لكنه عندهم يكون باطلاً، فتكون منازعتهم في نفيه وليس في أصل التفسير، وهذا يختلف عن الوجه الأول، وهو أنهم يفسرون الظاهر بمعنى يُتفق معهم على أنه غلط، لكن ينازع في كونه هو ظاهر اللفظ.