الألفاظ التي لم يرد بها دليل شرعي

قال المصنف رحمه الله: [وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً، فليس على أحد بل ولا له أن يوافق أحداً على إثبات لفظه أو نفيه، حتى يعرف مراده، فإن أراد حقاً قبل، وإن أراد باطلاً رد].

مقصود المصنف بالمتأخرين هنا: الذين جاءوا بعد ظهور البدع في مسائل الصفات، فهؤلاء المتأخرون الذين انحرفوا عن هدي السلف، وخرجوا بشيء من الأقوال المحدثة، ولم يقتدوا بكلمات القرآن وكلمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واستعملوا ألفاظاً مجملة، فصارت القاعدة هنا: (أن كل لفظٍ مجملٍ حادث فيما يتعلق بأسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته وأفعاله، فإنه لا يجوز أن يطلق إثباتاً ولا نفياً)، فلابد أن يجتمع فيه الأمران: الأول: أنه مجمل، أي: أنه يحتمل أكثر من معنى، والثاني: أنه حادث، أي: مبتدع لم يذكر في الكتاب والسنة, ولا في إجماع كلمات الأئمة، وهذه الألفاظ المجملة الحادثة قال المصنف: ليس على أحد بل ولا له أن يطلق إثباتها أو أن يطلق نفيها.

وقولنا: (كل لفظ مجمل)، المقصود بالإجمال هنا: الإجمال بوضع اللغة، وباستعمال المستعملين من النظار، فاللفظ قد يكون مجملاً من حيث اللغة، وقد يكون مجملاً باستعمال المستعملين له, فإن هناك بعض الألفاظ هي من حيث اللغة ليست مجملة، بمعنى: أنه إذا عبر بها بان المقصود بالتعبير بها، لكن باستعمال المستعملين من النظار ونحوهم صار هذا اللفظ مجملاً، ومن المعلوم أن باب الأخبار باب واسع، لكن لما دخلها الإجمال من حيث الاستعمال، أغلق شأنها، فقد يكون اللفظ من الألفاظ السائغة، لكن لما طرأ الاستعمال وتعدد وجه تفسيره، صار مجملاً من جهة الاستعمال, ولهذا أصبح إطلاقه إثباتاً ونفياً لا يكون حسناً؛ بل لا بد من التفصيل:

فينظر في المعنى المراد، فإن كان المعنى المراد حقاً قبل المعنى، وإن كان المعنى المراد باطلاً رد المعنى, وإذا قبل المعنى أو فسر المعين كلامه بمعنىً صحيح، فهل من لازم قبول المعنى قبول اللفظ؟ الجواب: لا.

بل يقبل المعنى ويعبر عنه بالكلمات الشرعية.

والله سبحانه وتعالى لم يضيق أمر المكلفين في عقيدتهم وفي دينهم، فإن الله تعالى قد ذكر من الكلمات التي لا يأتيها الباطل، وهي كلمات القرآن، وقد قال الله عنه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] وكذلك كلمات صاحب النبوة، وهي الكلمات الجامعة المانعة، وقد أوتي جوامع الكلم، كما أخبر عليه الصلاة والسلام.

فهذه الكلمات الشرعية لا شك أنها أفصح وأصدق وأضبط في تعيين الحق، فلا يكون المعنى الحق موجباً للتكلم بلفظ مجمل؛ بل المعنى الحق يعبر عنه بالكلمات المفصلة، وهي الكلمات الشرعية، أو ما جاز من الكلمات، وهي الكلمات التي ليس فيها إجمال ولا ابتداع.

قال المصنف رحمه الله: [وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً، ولم يرد جميع معناه؛ بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى، كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك]

هذا التفصيل من المصنف في قوله: (قبل ..

رد، لم يقبل مطلقاً, ولم يرد ..) هذا كله في المعنى، وأما في اللفظ فإنه لا يجوز استعماله في هذا المقام، لكن ربما ساغ استعماله أثناء المناظرة، فيكون من باب مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم، فهذا الاستعمال مقيد بحال المناظرة التي يقصد بها الدعوة إلى حق أو الدفع لباطل.

ولذلك فإن ابن تيمية لما تكلم عن لفظ الجهة ونحوه قال: "إن مثل هذه الكلمات لا بأس أن تستعمل إذا قامت المصلحة الراجحة حال المناظرة"، وهذا من باب مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم، أما أن تكون هذه الكلمة مما يعرض في مقام التقرير لعقيدة المسلمين وعقيدة أهل السنة وسلف الأمة، فهذا لا يصح.

وقوله: (كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك):

هذا مثال للكلمات المجملة التي قصدها المصنف في قوله: (وما تنازع فيه المتأخرون)، أي: ما تنازع فيه المتكلمون وبعض المنتسبين للسنة والجماعة من الكلمات.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015