قال المصنف رحمه الله: [القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربه عز وجل فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف؛ لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه].
هذا السياق من كلام المصنف لو أراد بعض المتكلفين في الفهم وغير المنصفين في وزن أقوال أهل العلم، لربما تكلف حمقاً فقال: إن المصنف نزع في هذه الجملة إلى مسلك التفويض.
وهذا إنما أشير إليه ليس من باب الدفاع عن المصنف، وأنه لا يذهب مذهب التفويض؛ لأن المصنف أكبر شأناً من أن يتوهم في شأنه هذا الأمر، ولكن لعل هذا السياق من كلامه يكون مناسبةً لتقرير مقام العدل في وزن أقوال الرجال ولا سيما أهل العلم، وأنه لا يحل لأحد ولا يجوز له شرعاً أن يأخذ المجمل من الأقوال، فيجعل هذا المجمل المشترك المحتمل لأكثر من معنى -يجعله على سيئ المعاني، حتى ولو كان اللفظ أو السياق يمكن أن يفسر بهذا، فإنه لو جوز أحد لنفسه أن يستعمل مثل هذا المنهج؛ لوقع في كلام كثير من أهل العلم من أهل السنة بعض الجمل المجملة التي يمكن أن تفسر إما بنوع من التفويض، أو بنوع من التأويل، أو بنوع من الغلو، أو بنوع من التفريط، أو ما إلى ذلك من أوجه المخالفة والنقص.
وقد كان أهل العلم رحمهم الله لا يرون الزيادة في تفسير المعاني حتى على مخالفيهم, إلا من باب تقرير لوازم أقوالهم، ليعلم أن أقوالهم خطأ، وأما أن ينسب لمعين أنه يقول كذا وكذا من جهة التحقيق والمطابقة لأقواله بلازم من لوازمه، أو بمجمل كلامه، أو ما إلى ذلك، فإن هذا ليس عدلاً.
وعليه: فإنه يجب إذا فسر كلام أحد من الأعيان أن يُعتبر حال هذا المعين، فإن كان هذا المعين معروفاً بالسنة والجماعة، وإثبات الصفات مثلاً، لكن جاء في جملة من كلامه سياق فيه اشتراك، بمعنى: أن هذا السياق استعمله المفوضة، فإنه لا يحل لأحد أن يقول: إن هذا المصنف قد غلط وفوض، ونحو ذلك.
ولكن لا بأس أن يقال: لو أن المصنف عبر بغير هذا السياق لكان أحسن وأجود، فإن هذا من باب الضبط والتحقيق، وبيان أن الألفاظ المشتركة مع المخالفين لا ينبغي أن يعبر بها، لكن أن يلزم المصنف بحقيقة هذا اللفظ المشترك على معنى من المعاني المخالفة، فإن هذا لا يقع فيه إلا من كان عنده إما نقص من جهة العلم, أو نقص من جهة العدل، فإن الله يقول: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فمن دخلت عليه مادة من الجهل، أو مادة من الظلم؛ ركب هذا المرتقى الصعب، وعد ذلك من باب الانتصار، أو من باب التحقيق، أو من باب تمييز الحق، أو ما إلى ذلك.
ولا شك أن من قواعد الحق وأصوله: العدل بين الخلق، فإن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، فلابد أن يكون العدل منهجاً لطالب العلم، فإن أولى الناس بالعدل هم أهل العلم؛ لأن العدل حقيقته: هو العمل بقضاء الله سبحانه وتعالى، وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هذه الجملة من كلام المصنف تفسر على أحد وجهين:
الوجه الأول: أن يقال: إن المصنف قصد بقوله: (أن ما أخبر به الرسول عن ربه عز وجل فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف)، قصد به أن الأصل في قواعد الشريعة أن كل ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه حق يجب الإيمان به، وليس الإيمان بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فرعاً عن المعرفة بمفصل المعنى؛ بل إن مجرد كونه خبراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون هذا موجباً للإيمان والتصديق، بخلاف بعض المعاني التي لا تكون من صاحب النبوة، فإنها لا تصدق إلا إذا بان صدقها من جهة الإدراك لمعناها الصادق.
أما إذا كان المعنى مجملاً أو منغلقاً، فإن الإنسان ليس مكلفاً بتصديقها, لكنها لما جاءت من صاحب النبوة عليه الصلاة والسلام، فإن الأصل أنه يؤمن بما أخبر به وإن لم يعرف معناه.
وعلى هذا التفسير فلا يلزم أن يكون المصنف قصد أن هناك جملة من خبر الرسول عن ربه لا يعرف معناه، بل هو يقول: إن ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به من حيث أنه خبر من صاحب النبوة، حتى لو فرض جدلاً أن المعنى هنا ليس معلوماً، فإن عدم العلم بالمعنى لا يوجب التأويل أو الرد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وهذا من التعبير الذي يستعمله أهل العربية في كلامهم، فيكون هذا من باب اللزوم الذاتي، أنه يلزم الإيمان بما أخبر به النبي من حيث هو، وليس الذي أوجب الإيمان بالذي أخبر به النبي هو العلم بمفصل المعاني؛ بل إن مجرد كونه خبراً يجب الإيمان به, ولذلك لو سمع أعجمي كلاماً من كلام صاحب النبوة، فقيل له: إن هذا كلام نبي الله عليه الصلاة والسلام؛ لوجب عليه أن يصدق هذا الكلام، وإن لم يكن في قلبه تصديق بهذه الكلمات، وإيمان بها، وتعظيم لها، وقبول لها، وإن كان ليس فقيهاً لسائرها.
فهذا من باب أن العلم بما أخبر به الرسول عن ربه هو علم إيماني؛ لأن هذا هو من تحقيق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، ومن تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله.
الوجه الثاني: أن يقال: ربما قصد المصنف بالمعنى هنا: التمام من المعنى، وهو ما يتعلق بإدراك المعنى إدراكاً تاماً، بحيث يكون هذا من باب العلم بالكيفيات، فكأنه قصد أن ما أخبر به النبي عن ربه فإنه يجب الإيمان به، وإن لم نعرف تمام المعنى الذي هو الإحاطة بماهية المعنى، والإحاطة بماهية المعنى قد تفسر بمعنى الكيفية.
وقد نقل عن الإمام أحمد أنه قال: "نؤمن بها لا كيف ولا معنى"، وهذا الذي روي عن الإمام أحمد -إذا ما صح عنه- فإنه يفسر بأن المعنى الذي نفاه الإمام أحمد ليس هو المعنى الذي كانت تنفيه المعتزلة وغيرهم من الطوائف، ولكن إما أنه ينفي المعنى الفاسد، وإما أنه ينفي العلم بالكيفيات.
وقد يقول قائل: إن هناك فرقاً في لسان العرب بين كلمة (المعنى) وبين كلمة (الكيفية)، وهذا يقود إلى أن هذه التعبيرات قد لا تكون هي المناسبة على كل تقدير، لكنها إذا وردت من أحد من المعروفين بالسنة والجماعة لزم أن تفسر على هذا الوجه.
فالمقصود: أن هذا الكلام من كلام المصنف يخرج على أحد هذين الوجهين، وكأن التخريج الأول أصح، بمعنى: أنه يقول: إن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه فإنه يجب الإيمان به من حيث هو خبر صاحب النبوة، وإن كان من موجبات الإيمان به ما تضمنه من المعنى اللائق بالله سبحانه وتعالى، فيصير الإيمان به متحركاً في نفوس الخلق من جهتين:
من جهة أنه كلام صاحب النبوة، ومن جهة أنه تضمن معنى من الكمال اللائق بالله سبحانه وتعالى.