قال المصنف رحمه الله: [فيقال لهم: علم الخلق بامتناع الخلو من هذين النقيضين هو علم مطلق، لا يستثنى منه موجود، والتحيز المذكور إن أريد به كون الأحياز الموجودة تحيط به، فهذا هو الداخل في العالم].
قوله: (فهذا هو الداخل في العالم):
والله تعالى منزه عن ذلك باتفاق المسلمين، أي: منزه عن أن يكون داخل العالم.
ويستفاد من هذا السياق -خاصة في المناظرات- أن كل دليل عقلي يستعمله نفاة العلو، فهو إذا أمكن صدقه دل على نفي أن يكون الله سبحانه وتعالى داخل العالم، ولا شك أن هذا النوع من الدليل إذا صدق على هذا الوجه صار دليلاً على إثبات العلو؛ لأن من الأغاليط التي وقع فيها من وقع، وفرعوا عليها: أنهم ظنوا أن مفهوم قول الأئمة: (إن الله في السماء) هو من جنس قول المسلمين: (إن الملائكة في السماء)، ولذلك فإنهم يقولون: إذا قيل: إنه في السماء؛ لزم أن يكون في جهة، ثم يسلسلون مسألة الجهة، وأن الجهة أكبر منه، وما إلى ذلك من الفلسفة.
وهذا كله فرع عن غلط في الفهم؛ لأن قول الله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] لا يعني أن الله في السماء مثل قولك: إن الملائكة في السماء, أو إن عيسى في السماء, فإن قولك: إن الملائكة في السماء، هو بمعنى قولك: إن بني آدم في الأرض، أما قولنا: إن الله في السماء، فليس المقصود بالسماء هي السماوات السبع المخلوقة، وأن الله فيها كظرفية وحلول الملائكة فيها وما إلى ذلك؛ بل السماء هنا بمعنى العلو، أي: أن الله فوق سماواته, ولذلك ذكر الله الكرسي فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] فما بالك بعرشه الذي هو أعظم من ذلك؟! وما بالك بما يتعلق بذاته سبحانه وتعالى؟! فإنه لا يقدر أحد من الخلق قدر عرشه، فضلاً عن أن يقدر قدر ذاته جل وعلا.
إذاً: فهم عندما فهموا فهماً خاطئاً ذهبوا ينفونه، وظنوا أن هذا هو ظاهر القرآن، ولهذا قالوا: كيف يقال: إنه في السماء؟ وقالوا: إنه يلزم من ذلك التحيز، وأن تكون الجهة مخلوقة مع الله؛ لأن السماء مخلوقة، مع أنه لا يقصد بالسماء الشيء المخلوق أن الله فيه، كما يقال: إن الملائكة في السماء، ونحو ذلك.
قال رحمه الله: [وإن أريد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي: مباين لها، متميز عنها، فهذا هو الخروج].
وهذا لا دليل من العقل على نفيه، ولذلك قلنا سابقاً: إن كل ما يذكره المتكلمون أو المتفلسفة من دليل على نفي العلو، فإنه إذا تحقق وصدق يدل على نفي أنه داخل العالم، وهذه حقيقة بدهية، لم يكن هناك حاجة إلى دفعها، ولم يكن أحد يقول بها.
ولذلك فإن الرازي يقول: "اعلم أن المسلمين أجمعين لم يذهبوا إلى أن الله داخل العالم إلا الحنابلة والكرامية"، وهذا من عدم إدراك محمد بن عمر الرازي لحقيقة الأقوال والمذاهب، ولذلك يقول ابن تيمية وغيره: "إن أئمة المقالات هم من أكثر الناس علماً بمقالات بني آدم، لكنهم من أجهل الناس علماً بحقيقة أقوال أئمة السنة والجماعة"، وهذا بين، فمثلاً: كتاب الملل والنحل للشهرستاني، نجد أنه يذكر أقوال البراهمة، وأقوال الفرس، وأقوال المتفلسفة الأوائل، وغير ذلك، ويذكر أقوال الطوائف الإسلامية؛ كالمعتزلة وأصناف المعتزلة، ومفصل أقوال أصناف الشيعة، وغير ذلك، لكن عندما يأتي إلى حقيقة أقوال السلف يضطرب في تقريره اضطراباً شديداً.
ولذلك فإن الحاذق منهم إذا أراد أن يعرف قول الأئمة، إما أن يعرفه معرفة مجملة؛ كشأن أبي الحسن الأشعري، فقد عرف جملاً من كلامهم، مع أنه قصد الانتصار لهم والتعظيم لشأنهم, لكن القارئ في كتابه (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) -مع أنه يعد من أجود كتب المقالات، ومصنفه يعد من أعدل المصنفين في المقالات- يلاحظ أنه كتب عن المعتزلة كثيراً، وفصل في حقائق مذهبهم، مع أنه ليس بمعتزلي عندما ألف الكتاب, وكذلك كتب عن طوائف الشيعة كثيراً, وعن طوائف المرجئة، ونحوهم، لكن عندما ذكر مقالة أهل السنة والحديث ذكرها مجملة، وربما أدخل عليها جملاً ليست منها.
إذاً: من أكبر الإشكالات عند علماء الكلام والنظار: أنهم لم يفهموا حقيقة المذهب الذي عليه أئمة السنة؛ بل فهموه فهماً خاطئاً, وربما فهموه على وجهه في مسائل ولكنهم لم يقتدوا ولم يعتبروا به، ولا سيما في مسائل الإيمان وأصول التشريع، فإن هذا الباب أقرب إلى الإدراك والانضباط في فهمهم من باب الإلهيات.
قال رحمه الله: [فالمتحيز يراد به تارة ما هو داخل العالم, وتارة ما هو خارج العالم، فإذا قيل: ليس بمتحيز، كان معناه أنه ليس بداخل العالم ولا خارجه].
ولذلك يقال: إن الفاضل منهم إذا أراد أن يعرف مذهب الأئمة، إما أن يعرف مجمله، وإما أن يعرفه بأنه تفويض عام، كشأن إمام الحرمين الجويني، فإنه صنف كتباً؛ كالشامل، والإرشاد الذي سماه: الإرشاد إلى قواطع الأدلة، وانتصر في هذه الكتب انتصاراً صريحاً لمذهبه، ثم بعد ذلك بان له الغلط في هذا الطريق، وصنف الرسالة النظامية، ولكنه زعم أن طريقة الأئمة هي التفويض، وهذا التفويض الذي ينسبه إلى الأئمة المتقدمين، أو يقول: إنه مذهب للسلف، لا يفهم منه الجويني أكثر من كونه ليس تأويلاً، فيقول: إن باب الصفات إما أن فيه تأويلاً، وهو يعلمه علماً مفصلاً، ثم تبين له في الأخير أن التأويل خطأ، فرجع من التأويل إلى التفويض، وربما أن أقرب ماهية للتفويض عنده أنه تركُ التأويل، وعدم الدخول في تفصيل المعاني، ويرى أن أي تحقيق للمعنى يعود إلى مسألة التأويل.
إذاً: هذا النقص في العلم سببٌ لهذا الاضطراب الذي وقع فيه هؤلاء النظار من المسلمين الذين خرجوا عن السنة إلى طرق من طرق الابتداع في الدين.
قال المصنف رحمه الله: [فهم غيروا العبارة ليوهموا من لا يفهم حقيقة قولهم أن هذا معنىً آخر، وهو المعنى الذي علم فساده بضرورة العقل، كما فعل أولئك في قولهم: ليس بحي ولا ميت، ولا موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل].
إذاً: قولهم: إن إثبات العلو يستلزم التحيز، يقال: ما المقصود بالتحيز؟ فإن قصدتم أن إثبات العلو يستلزم التحيز، أي: أن يكون الله سبحانه وتعالى داخل المخلوقات، فهذا لا يلزم، وليس هو المقصود بإثبات العلو؛ لأن إثبات العلو هو بمعنى إثبات مباينة الله وعلوه على خلقه، وإن أردتم أنه يستلزم التحيز، أي: أن الله منحاز عن الخلق، وأنه منفك عنهم مباين لهم, فهذا لا ينفيه العقل؛ بل إن من ينفي هذا فإنه لم يحقق ربوبية الله؛ لأنه يلزمه إذا لم يقل بمباينة الله لخلقه أن يدعي مداخلة الباري للخلق، وهذا هو النقص.
إذاً: كلمة (التحيز) من الكلمات المجملة، وسيذكر المصنف في القاعدة الثانية بعض الكلمات التي فيها إجمال، وسيذكر القاعدة في شأنها.
إذاً: هذه هي القاعدة الأولى، وقد قصد المصنف منها إلى تفصيل معنى من معاني السلف، وتقرير بعض دلائلهم، والرد على شبه المخالفين لهم.