مقارنة بين من ينفون عن الله النقيضين وبين من يصفونه بالنفي فقط

قال المصنف رحمه الله: [واعلم أن الجهمية المحضة كالقرامطة ومن ضاهاهم ينفون عنه تعالى اتصافه بالنقيضين، حتى يقولوا: ليس بموجود ولا ليس بموجود، ولا حي ولا ليس بحي.

ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع في بدائه العقول، كالجمع بين النقيضين].

قوله: (الجهمية المحضة كالقرامطة):

فإن جهماً ظهر قبل ظهور القرامطة، والقرامطة منزع غير منزع المتكلمين، والجهمية المحضة هم الغلاة من نفاة الصفات, ولذلك ربما قال ابن تيمية: "وابن سينا وأمثاله من الجهمية الغلاة", مع أن ابن سينا جاء بعد الجهم بن صفوان، وهو يرى أن الجهم بن صفوان ليس على جادة محكمة.

فالمقصود بكلمة التجهم على هذا التقرير: الغلاة من نفاة الصفات، كما أنهم ربما استعملوا كلمة التجهم على معنى الوقوع في شيء من نفي الصفات, وربما استعملوها على معنى الغلو، وربما استعملوها على معنى القصر, أي: أن ما وقع من نفي الصفات سموه تجهماً، أو سموا مقالته: من أقوال الجهمية، ولذلك يقول الإمام أحمد: "من قال: إن القرآن مخلوق فهو جهمي"، والمقصود أن هذه المقالة جهمية، لا أن من قالها فهو جهمي محض، وإن كان منتسباً للسنة.

قال المصنف رحمه الله: [وآخرون وصفوه بالنفي فقط، فقالوا: ليس بحي ولا سميع ولا بصير، وهؤلاء أعظم كفراً من أولئك من وجه، وأولئك أعظم كفراً من هؤلاء من وجه].

قوله: (وآخرون وصفوه بالنفي فقط):

أي: بالسلوب المحضة, وربما زادوا على مسألة السلوب فتكلموا بما يسمونه: الإضافات، وقد سبق أن ذكر ابن تيمية عن ابن سينا وغيره أنهم يصفونه بالسلوب والإضافات، كقولهم: إنه مبدأ العالم، أو علة العالم، وما إلى ذلك.

وقوله: (وهؤلاء أعظم كفراً من أولئك من وجه):

أي: الذين هم على طريقة ابن سينا وأمثاله، الذين يصفونه بالنفي، ولا يصفونه بسلب النقيضين.

وإذا اعتُبرت الحقائق المتناهية فإن مقالة رفع النقيضين -وهي مقالة غلاة الباطنية- أشد مناقضة من مقالة ابن سينا وأمثاله، وإن كانت كلا المقالتين مخالفة للعقل والنقل.

لكن قوله: (وهؤلاء أعظم كفراً من أولئك من وجه)؛ وذلك لأنهم يتكلمون بالنفي، والنفي وحده يقود إلى العدم، بخلاف من يستعمل رفع النقيضين؛ فإنه يعارض نفيه برفعه.

ومن هنا صارت المقالة الثانية من هذا الوجه شراً من المقالة الأولى، ثم يقول بعد ذلك: (وأولئك -أي: الباطنية- أعظم كفراً من هؤلاء من وجه)؛ وذلك لأن مخالفة طريقة الباطنية لأوائل العقول أظهر من مخالفة ابن سينا بما يسميه بالسلوب والإضافات، فهؤلاء أعظم كفراً من وجه، وأولئك أعظم كفراً من وجه, لكن من حيث الحقائق المتناهية فإن طريقة الباطنية أبعد عن الشرع والعقل من طريقة ابن سينا وأمثاله.

قال المصنف رحمه الله: [فإذا قيل لهؤلاء: هذا يستلزم وصفه بنقيض ذلك؛ كالموت والصمم والبكم.

قالوا: إنما يلزم لو كان قابلاًَ لذلك.

وهذا الاعتذار يزيد قولهم فساداً].

قوله: (يزيد قولهم فساداً)؛ لأنه أولاً: ممنوع لفظاً، وثانياً: يلزمهم أن يقعوا في شر مما فروا منه.

مقالة: أنه ليس بداخل العالم ولا خارجه:

قال رحمه الله: [وكذلك من ضاهى هؤلاء، وهم الذين يقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه]

الذين يقولون: ليس هو بداخل العالم ولا خارجه، هم نفاة العلو، لكن هذه الكلمة كلمة فلسفية، أي: تكلم بها المتفلسفة كـ ابن سينا وأمثاله، وتكلم بها غلاة المتكلمين، ولما جاء من تأثر بهم من متأخري متكلمة الصفاتية؛ كـ محمد بن عمر الرازي وأمثاله، عدلوا قليلاً في العبارة فقالوا: (ولا يقال: أنه داخل العالم ..)، وحاولوا التفريق بين مقالتهم وبين مقالة المتفلسفة بمثل هذا الاستثناء، فإن ابن سينا يصرح فيقول: ليس بداخل العالم ولا خارجه، والرازي يقول: ولا يقال أنه داخل العالم ولا خارجه.

والفرق بينهما قد يكون له مقصود عام، لكنه عند التحقيق فرق لفظي فقط.

إذاً: فالمتأخرون من متكلمة الصفاتية كـ محمد بن عمر وأمثاله من نفاة العلو قد شاركوا المعتزلة، أما المقتدمون منهم؛ كـ أبي الحسن الأشعري، وأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، والقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني، وأبي علي الثقفي، وأمثال هؤلاء المتقدمة من أصحاب الأشعرية، كانوا مثبتة لعلو الله سبحانه وتعالى، وحتى من مال منهم إلى التصوف والسلوك كـ الحارث بن أسد المحاسبي وغيره.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015