وقول المصنف: (وكذلك كونه لا يتكلم أو لا ينزل ..): قد يقول قائل: هل من لازم الإله الحق أن يكون متصفاً بالنزول؟ أليست هذه الصفة صفة خبرية سمعية لم يثبتها العقل ابتداء كصفة العلم والكلام ونحوها؟
والجواب: أن يقال: إن نفاة الصفات التي تسمى: الصفات الخبرية، أي: التي نطق بها القرآن أو السنة، والعقل لم يدل عليها ابتداء، ولكنه لا ينافيها، وذلك كصفة النزول، نفاة هذا النوع من الصفات لا ينفونها لذات الصفة وحدها، ولذلك فلو كانت العلة عندهم أن حديث النزول آحاد، وسلمنا جدلاً أنه من الآحاد، وسلمنا جدلاً أن الآحاد لا يحتج به في العقيدة، فماذا يقولون في صفة الإتيان والمجيء الذي ذكره الله في القرآن؟! فهم -إذاً- يضطربون في النفي والتأويل، فهذا يردونه لكونه آحاداً، وهذا يتأولونه، إلى غير ذلك.
فالإشكال عندهم ليس لأن هذا النص في ذاته مشكل، ولكن الإشكال عندهم هو في القاعدة التي بها ينفون الصفات، وهي ما يسمونها: (حلول الحوادث)، ولتقريب المعنى نقول: ما يسمونه بمسألة الحركة، فأي صفة تتضمن في المعنى العام ما هو بمعنى الحركة فلا يكون عندهم صفة ثابتة.
ولذلك فإن الإمام الدارمي رحمه الله في رده على الجهمية ذكر إثبات الحركة لله سبحانه وتعالى، مع أن القرآن الكريم لم يذكر كلمة الحركة، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الكلمة ليست من الكلمات التي تعرض ابتداءً، إنما الذي يعرض هو الأفعال المفصلة في القرآن، لكن في تفصيل الرد على المخالف لابد من إبانة مثل هذه المعاني، ولذلك فقد عرضت هذه الكلمة لبعض الأئمة، واستعملوها على هذا الوجه, وقد جوز الإمام ابن تيمية الاستعمال على هذا الوجه من المناسبة، وذكره عن الإمام الدارمي، وهو موجود في رده على الجهمية، وذكره عن جماعة آخرين.
فالمقصود: أن هؤلاء ينفون مسألة الحركة التي سموها باصطلاح علم الكلام: حلول الحوادث.
وهذا المعنى هو في حقيقته يرجع إلى المعاني الفلسفية القديمة التي كان أصحابها لا يثبتون الفعل في حق الإله سبحانه وتعالى، فهي نزعة مشتقة من الفلسفة.
والغريب في الأمر: أن أبا الحسن الأشعري لما رجع عن الاعتزال قال: "إن دليل الأعراض الذي بنت المعتزلة عليه قولها في صفات الله تعالى هو متلقى من الفلسفة".
وهذا أمر مهم جداً، فإن القائل لهذا الكلام ليس هو ابن تيمية أو بعض العلماء من أئمة السنة؛ بل إنه أبو الحسن الأشعري، وقد كان إماماً في مذهب المعتزلة سابقاً، وإماماً من أئمة المتكلمين، ولم يزل على هذا العلم مع انتسابه في آخر أمره إلى أهل السنة والجماعة، فقد نص على أن دليل الأعراض الذي بنت المعتزلة عليه القول في الصفات متلقى من الفلسفة.
والعجب أن الأشعري قال هذا الكلام ولم يسقط هذا الدليل؛ بل استعمله، ولكنه عدل فيه شيئاً، وأثبت بهذا التعديل أصول الصفات؛ كالحياة، والكلام، والسمع والبصر، ونحو ذلك, ونفى صفات الأفعال التي سماها: حلول الحوادث، فنفيه لما سماه: حلول الحوادث، بقية بقيت عليه من دليل المعتزلة ومن مذهبها، وقد نص على أن دليل المعتزلة دليل فلسفي، فيلزم من هذا -كنتيجة علمية- أن يكون الأشعري قد بقي عليه بقية من هذا الدليل الفلسفي، وبقي عليه بقية من نتيجته، وهي ما سماها بمسألة: حلول الحوادث، أي: نفي مسألة الحركة.
ولذلك نجد أنهم يتأولون الاستواء على العرش، والأشعري يثبت الاستواء، لكنه لا يثبته على بابه من الفعل المعروف في الإثبات عند الأئمة، ونجد أنهم يتأولون النزول والمجيء والإتيان، وإذا تكلموا في إرادة الله قالوا: إن هذه إرادة واحدة، وعندما تكلم الأشعري وابن كلاب عن صفة الكلام قالوا: إن الله يتكلم لأن الكلام صفة عقلية ضرورية، لكن عندما قيل: إنه يتكلم بحرف وصوت، عرضت لهم مسألة حلول الحوادث، فلزم أن يكون هذا على تقديرهم من باب حلول الحوادث، فرجع ابن كلاب وتبعه الأشعري في ذلك، فقالوا: إن الكلام هو معنى يكون في النفس واحد، ليس بحرف ولا صوت.
وقد أتوا بهذه الفلسفة في تعريف الكلام -وهي فلسفة لم يعرفها الناس، لا من أهل اللسان العربي، ولا من أهل العقل، ولا غير ذلك- ليتخلصوا من مشكلة نفي صفة الكلام، وهي صفة عقلية كمالية بينة، فأثبتوا صفة من صفات الكلام لضرورة إثباتها، ولكنهم فسروها هذا التفسير ليتخلصوا مما سموه: حلول الحوادث، وهو: كل ما أوجب حركة.
والمقصود بالحركة هنا هو معناها الفلسفي، وليس المعنى اللغوي العربي، فالمقصود بكل ما يتضمن حركة هو المعنى الفلسفي التي كان يقصد أرسطو طاليس وأمثاله كـ ابن سينا، فإنه في كثير من تعبيره ينص على أن الإله الحق مجرد عن الحركة، ويفسر الحركة تفسيراً فلسفياً.
ولسنا نقول: إن الأشعري مثل ابن سينا ..
كلا! فإن الأشعري رجل عظم السنة وانتسب إليها, وهو رجل له علم وديانة، وقصد لأهل السنة والجماعة، وإن كان على بدعة وأغلاط، ولكن دين الإسلام لا يرجع فيه إلى رجل أو أهل بيت، أو طائفة من الطوائف، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد عظم أهل بيته، وقال: (والذي نفسي بيده لا يدخل قلب امرئ الإيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي)؛ ولكنه لم يوجب على المسلمين أن يرجعوا في دينهم وفي معتقدهم، أو في أصولهم إذا أشكل عليهم شيء أن يرجعوا إلى أحد من أهل بيت النبوة؛ بل إن الله تعالى يقول في كتابه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
إذاً: مسألة التعصب يجب على الأمة أن تنفك عنها في أي واد كان هذا التعصب, سواء كان تعصباً فقهياً, أم تعصباً لرجل في الاعتقاد، أو غير ذلك.
فالمقصود: أن هذه الإشكالات التي دخلت على الأشعري وعلى غيره، وشوشت على أمرهم، مادتها مادة جاءت بمثل هذا التدرج.
إذاً: ابن سينا -كما مر- يتكلم عن مسألة تجريد الله عن الحركة على هذا المعنى الفلسفي، أي: تجريده عن الفعل ونحو ذلك، ولذلك قال: إن العالم تولد عن العقول العشرة، والنفوس التسعة، ونحو ذلك، ويحقق نفي الحركة نفياً فلسفياً فيقول: أن الباري يعلم الأشياء ليس بعلم جزئي وإنما بعلم كلي.
وهو يقول هذا الكلام ليتخلص -بزعمه- من مسألة الحركة.
وحقيقة هذا التخلص الفلسفي أنه يقود إلى تعطيل الله عن صفات الفعل؛ سواء ما سمي بالفعل اللازم، أو بالفعل المتعدي, ولذلك فإن أساطين الفلسفة الأوائل -أي: قبل الإسلام- لم يكونوا يثبتون أن الله أو أن الإله عندهم هو الخالق للعالم؛ لأن هذا من معاني الحركة التي هم يقصدون إلى تجريد الإله منها, وهذا الذي كان عليه أرسطو طاليس وأمثاله.
إذاً: هذه نزعات تأثر بها هؤلاء من أهل القبلة، كـ الأشعري وغيره.