قال المصنف رحمه الله: [وكذلك من شاركهم في بعض ذلك، كالذين قالوا: إنه لا يتكلم، أو لا يرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا محايث له؛ إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي مستلزمة صفة ثبوت، ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق: ميز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم].
هذا هو مذهب أئمة المتكلمين من أئمة الجهمية الأولى، الذين ينفون سائر الصفات، ولهذا قال المؤلف: (من شاركهم في بعض ذلك) أي: شارك المتفلسفة في هذه الطريقة، وإن كان هؤلاء قد ظهروا وتكلموا بكلامهم قبل ظهور ابن سينا وأمثاله، لكن المادة مستقاة من جوهر واحد، إلا أن ابن سينا وأمثاله أفصح بالفلسفة، وهؤلاء قد أجملوا وركبوا ما حصلوه من الفلسفة تحت مقدمات مجملة؛ إما من العقل، وإما من الشرع، وهو ما سمّوه بعلم الكلام.
هذه طريقة أئمة الجهمية نفاة الصفات، الذين يقولون: إنه لا يتكلم، ولا يرى، وليس فوق العالم ولا تحته
إلخ، وربما عبروا بعبارات كقولهم: ليس بداخل العالم ولا خارجه، وهذا من باب رفع النقيضين، بمعنى: أن طريقتهم هذه مخالفة للعقل؛ لأن رفع أحد المتقابلين يستلزم ثبوت الآخر، فقولهم: إنه لا يتكلم، يستلزم نقصاً، ولزم أن يكون متصفاً بضد ذلك، والله تعالى منزه عن الضد بإجماع المسلمين.
ومن الأدلة على أن الإله الحق المعبود قابل للصفات: أنه لو كان الأصل في العقل، أو في الفطرة، أو في دلائل العقل الكلية، أن الإله المعبود لا يكون قابلاً للصفات؛ لما أبطل الله سبحانه وتعالى ألوهية العجل بقوله: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148] لأن أصحاب العجل قد يكون جوابهم: إن الإله الحق ليس قابلاً للصفات، كما تزعم المعتزلة، فإنهم يقولون: إن الله لا يتكلم، ولا يلزمنا أن يكون الله سبحانه وتعالى موصوفاً بالخرس، فإن قيل: فكيف ذلك؟ قالوا: لأن الله ليس قابلاً، فيقال: هذا خلاف حكم العقل، وخلاف حكم الشرع، فإن الله قابل للصفات, والإله الحق لا بد أن يكون قابلاً؛ ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم:42] فلو كان الإله الحق ليس قابلاً؛ لما قال إبراهيم ذلك لأبيه.
وقوله: (ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق: ميز لنا بين هذا الرب الذي تعبده وبين المعدوم):
أي: أن هذا المذهب يستلزم القول بالعدم، فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب لم يثبتوه في الحقيقة إلها محموداً ولا موجوداً، وهذا من باب لوازم المذهب.