قال المصنف رحمه الله: [وكذلك قوله تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:3] فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السماوات والأرض].
ولذلك فإن هذا النفي لما جاء في هذا السياق دل على كمال الإثبات، وعلى تحقيق الإثبات وتفصيله، وقد سبق أن قدم المصنف أن الله بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل، لكن بعض مقامات الصفات يناسب في سياقها أن يُفصل في مقام النفي من باب تحقيق الكمال، ومن باب تحقيق سياق الكمال.
ولذلك فإن ما ذكره بعضهم من أن النفي المفصل في القرآن لا يستعمل إلا في نفي ما ادعاه المكذبون للرسل، أو ما إلى ذلك من الأوجه؛ كأن فيه شيئاً من الحصر؛ لأن الاستقراء للقرآن فيما فصل لا يلزم منه أن يكون كذلك ..
صحيح أن ما يذكره الباري سبحانه وتعالى من تنزيهه عن السنة والنوم، وعن عزوب شيء في السماوات والأرض عنه، ونحو ذلك، لا شك أنه رد على من يشكك أو يجحد ما هو من ذلك، أي: مما يليق به، أو يصفه بما لا يليق به سبحانه وتعالى، فلا شك أن القرآن بهذا السياق يتضمن رداً، لكن أن يكون هذا هو الموجب، وأنه لولا هذا المحرك لما حصل هذا، فليس بالضرورة أن يكون ذلك صحيحاً؛ فإن السياق إذا كان كذلك كان هذا أتم في كماله سبحانه، فعندما قال الله سبحانه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، ثم قال: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] علم أن قوله: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) أتم في تحقيق الكمال من السياق لو كان مختصراً على المقام الأول وحده، وإن كان المقام الأول فيه تحقيق للكمال.
إذاً: إنما يذكر ذلك من باب تحقيق كماله سبحانه وتعالى، وهذا التحقيق يكون متضمناً للرد على من خالف هذا من وجه آخر لا إشكال في ثبوته.
قال المصنف رحمه الله: [وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] فإن نفي مس اللغوب الذي هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة، ونهاية القوة، بخلاف المخلوق الذي يلحقه من النصب والكلال ما يلحقه].
لأن هذا السياق من القرآن من باب قطع الوهم، وليس بالضرورة أنه رد على قوم معينين، فإنه من باب قطع الوهم الذهني الذي قد يعرضه الشيطان لبعض نفوس بني آدم.
وقد سبق أن خلق الله سبحانه وتعالى يكون على أحد وجهين -على ما ذُكر في القرآن- فإما أن يكون خلقاً على جهة الفعل الذي هو الأمر المحض منه سبحانه وتعالى، وهو المذكور في قوله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] وإما أن يكون من باب الخلق الذي هو توسط السبب في وجود المُسَبّبَ، ويكون الله سبحانه وتعالى هو الخالق للسبب والمسبب.