قال المصنف رحمه الله: [فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟ قيل له -كما قال ربيعة ومالك وغيرهما-: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة؛ لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه].
قوله: (الاستواء معلوم):
أي: معلوم في الكتاب والسنة؛ فإن القرآن الكريم، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قد نطقا بالاستواء، ومعنى ذلك: أنه معلوم اللفظ ومعلوم المعنى، فالاستواء معلوم بالشرع، والشارع -وهو القرآن الكريم وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم- لا يأتي بألفاظ مجردة عن المعاني؛ فإن التكلم بكلام مجرد عن المعنى ممتنع؛ خاصة إذا كان الإنسان يتكلم بكلام منتظم، ويقول: إنه ليس له معنى، فإن هذا ممتنع، ولذلك فإن من يؤمن بالآية يلزمه أن يؤمن بمعناها، أو يلزمه أن يؤمن بمعنى فيها، أياً كان هذا المعنى، وسواء أصاب في تفسيرها أو أخطأ.
أما أن يقال: إن الآية موجودة، والمعنى غير موجود، فإن هذا لا يكون، إلا أن يكون اللسان ليس لساناً مناسباً لهذا السامع أو لهذا المتكلم.
إذاً: قوله: (الاستواء معلوم) أي: معلوم المعنى، فإن معنى (استوى على العرش)، أي: علا على العرش، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: الرحمن علا على عرشه واستوى استواءً وعلواً يليق بجلاله، لا كما يقول المؤولة: أنه استولى، ولا كما يقول المفوضة: أنه استوى على العرش، ولا نعلم معنى ذلك ..
كيف لا يعلمون والله تعالى قد نطق به في كتابه، وقد قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82]! وهذا من تدبر القرآن.
وقد وقع في بعض كلام أهل العلم في تفسير الاستواء بالجلوس، وهذا اللفظ غلط، وإن قال به من قال، ولا يعتبر به، ولا يُقال: إنه مذهب للسلف، فإن مذهب السلف تراعى فيه أكثر من جهة:
الجهة الأولى: أن الكلمات القرآنية والنبوية دائماً أشرف وأصدق وأتم وأبين من الكلمات التي تكلم بها من تكلم بعدهم، حتى ولو كان المتكلم إماماً عالماً؛ ومن الكلمات القرآنية: الاستواء، والعلو، والفوقية
إلخ.
الجهة الثانية: أن المذهب لا يرد فيه تفسيران للسلف إلا إذا اضطرب عندهم، أما إذا ورد أن بعضهم قال: (استوى على العرش) أي: جلس على العرش، فإن التعبير لا يكون مناسباً؛ لأن كلمة (جلس) في لسان العرب ليست مرادفة في معناها ومرادها لكلمة (استوى)؛ بل فيها قدر من الزيادة، وقدر من التفصيل الذي لم تنطق به الكلمة القرآنية.
وقد يقصد بعض العلماء الذين ينطقون بمثل هذا أحياناً درء التأويل، أي: أنهم يريدون أن يبينوا أننا نحقق الإثبات، فيقعون في قدر من الزيادة؛ إما في اللفظ، وإما في المعنى.
وقد نبه ابن تيمية على هذا الأمر، وهذا يقع في هذا العصر أحياناً عند بعض الناس، سواء في مسائل الصفات أو في غيرها، يقول ابن تيمية: "إن بعض المنتسبين للسنة والجماعة، المعظمين لطريق الأئمة، ربما زادوا إما في الحروف وإما في المعاني في مقام الإثبات، من باب التحقيق ودرء التأويل"، وضرب مثلاً لذلك بـ أبي حامد من الحنابلة، يقول: "إنه شديد في الإثبات"، فينبغي لطالب العلم في تقريره للسنة أن يبتعد عن الزيادة، سواء كانت الزيادة في الكلمات أو في المعاني، إلا أن تكون كلمة اقتضاها السياق، وقد سبق معنا أن الكلمات منها ما يجب استعماله، ومنها ما يسوغ استعماله، ومنها ما يرخص استعماله لداعٍ دعا إلى ذلك، ومنها ما يمنع استعماله.
والفقه أن يستعمل الإنسان الكلمات الشرعية، ويستعمل في الدرجة الثانية ما يحتاج العامة فيه إلى البيان والإيضاح.
وقوله: (والكيف مجهول) أي: يمتنع العلم به، وهذا نفي لإمكان العلم به، وليس نفياً للكيفية نفسها، فإن الصفات لها كيفية، فنزول الله واستواؤه له كيفية، ولكنها مجهولة.
وقوله: (والإيمان به واجب)؛ لأنه خبر من أخبار الله في كتابه، فيجب الإيمان به.
وقوله: (والسؤال عنه بدعة) أي: عن الكيفية؛ لأنه قول على الله، وسؤال في حق الله بغير علم.