وفي ذلك تفصيل، لأنه إما أن يجزم بتكذيبه له أم لا. وإذا جزم، فتارة يصرّح بالتكذيب، وتارة لم يصرّح به، فإن لم يجزم بتكذيبه كان قال: لا أذكره، فاتفقوا على قبوله، لأن الفرع ثقة والأصل لم يطعن فيه، وإن جزم وصرّح بتكذيبه، فاتفقوا على ردّه، لأن جزم الفرع بكون الأصل حدّثه يستلزم تكذيبه للأصل في دعواه أنه كذب عليه، وليس قبول قول أحدهما أولى من الآخر، وإن جزم ولم يصرّح بالتكذيب، كقول معبد: لم أحدّثك بهذا، فسوى ابن الصلاح، تبعًا للخطيب، بينهما أيضًا، وهو الذي مشى عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح النخبة.
لكن قال في فتح الباري: إن الراجح عند الحدّثين القبول، وتمسك بصنيع مسلم حيث أخرج حديث عمرو بن دينار هذا مع قول أبي معبد لعمرو: لم أحدثك به. فإن دل على أن مسلمًا كان يرى صحة الحديث، ولو أنكره راويه. إذا كان الناقل عنه ثقة، ويعضده تصحيح البخاري أيضًا، وكأنهم حملوا الشيخ على النسيان.
ويؤيده قول الشافعي، رحمه الله، في هذا الحديث بعينه، كأنه نسي بعد أن حدّثه، لكن إلحاق هذه الألفاظ بالصورة الثانية أظهر، ولعل تصحيح هذا الحديث بخصوصه لمرجحٍ اقتضاه تحسينًا للظن بالشيخين، لاسيما وقد قيل، كما أشار إليه الإمام فخر الدين في المحصول: إن الردّ إنما هو عند التساوي، فلو رجح أحدهما عمل به.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا الحديث من أمثلة هذا، مع أنه قد حكي عن الجمهور من الفقهاء في هذه الصورة القبول، وعن بعض الحنفية، ورواية عن أحمد: الرد قياسًا على الشاهد، وبالجملة فظاهر صنيع ابن حجر اتفاق المحدّثين على الردّ على صورة التصريح بالكذب، وقصر الخلاف على هذه، وفيه نظر. فإن الخلاف موجود، فمن متوقفٍ، ومن قائل بالقبول مطلقًا، وهو اختيار ابن السبكي تبعًا لأبي المظفر بن السمعاني، وقال به أبو الحسين بن القطان وإن كان الآمدي والهندي حكيا الاتفاق على الردّ من غير تفصيل وهو مما يساعد ظاهر صنيع الحافظ ابن حجر في الصورة الثانية وينازع في الثالثة.
ويجاب بأن الاتفاق في الثانية والخلاف في الثالثة إنما هو بالنظر للمحدثين خاصة وهذه الجملة من قوله قال علي إلى آخرها ثابتة في أوّل الحديث اللاحق عند الأصيلي وفي آخره عند الثلاثة الأبوين وابن عساكر.
843 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سُمَىٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: "ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلاَ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ: يُصَلُّونَ مَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ، وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ. قَالَ: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ بِأَمْرٍ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ
أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ، إِلاَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ: تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا: فَقَالَ بَعْضُنَا نُسَبِّحُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَنَحْمَدُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ. فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: تَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ". [الحديث 843 - طرفه في: 6329].
وبالسند إلى المؤلّف قال: (حدّثنا محمد بن أبي بكر) بن عليّ بن عطاء بن مقدّم المقدّمي البصري (قال: حدّثنا معتمر) هو ابن سليمان بن طرخان البصري، ولابن عساكر: المعتمر (عن عبيد الله) بضم العين، ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني، (عن سميّ) بضم السين المهملة وفتح الميم، مولى أبي بكر بن عبد الرحمن (عن أبي صالح) ذكوان السمان (عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: جاء الفقراء) فيهم أبو ذر كما عند أبي داود، وأبو الدرداء كما عند النسائي (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقالوا: ذهب أهل الدثور) بضم الدال المهملة والمثلثة، جمع: دثر، بفتح الدال وسكون المثلثة (من الأموال) بيان للدثور وتأكيد له، لأن الدثور يجيء بمعنى المال الكثير،
وبمعنى الكثير من كل شيء (بالدرجات العلا) في الجنة، أو المراد: علوّ القدر عنده تعالى (وبالنعيم المقيم) الدائم المستحق بالصدقة، (يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم)، زاد في حديث أبي الدرداء، عند النسائي في: اليوم والليلة: ويذكرون كما نذكر وللبزار من حديث ابن عمر: وصدّقوا تصديقنا، وآمنوا إيماننا (ولهم فضل الأموال) بالإضافة، ولأبي ذر عن الكشميهني: ولهم فضل من أموال، وللأصيلي: فضل الأموال (يحجون بها ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدقون) في رواية ابن عجلان عن سميّ عند مسلم: ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق.
(قال) عليه الصلاة والسلام، وللأصيلي وأبي ذر: فقال:
(ألا أحدّثكم بما) أي بشيء (إن أخذتم أدركتم) بذلك الشيء، وضبب في اليونينية على قوله: أحدثكم، ولأبي ذر في نسخة، والأصيلي: ألا أحدثكم بأمرٍِ إن أخذتم به أدركتم (من سبقكم) من أهل الأموال في الدرجات العلا، والجملة في موضع نصب مفعول أدركتم، وسقط قوله: بماء في أكثر الرويات. وكذا قوله: به، وقد فسر الساقط في الرواية الأخرى، وسقط