أرغفة.
ولما قدم نيسابور تلقاه أهلها من مرحلتين أو ثلاث، وكان محمد بن يحيى الذهليّ في مجلسه فقال: من أراد أن يستقبل محمد بن إسماعيل غدًا فليستقبله فإني أستقبله، فاستقبله الذهلي وعامّة علماء نيسابور فدخلها فقال الذهلي لأصحابه: لا تسألوه عن شيء من الكلام فإنه إن أجاب بخلاف ما نحن فيه وقع بيننا وبينه وشمت بنا كل ناصبيّ ورافضيّ وجهميّ ومرجئيّ، فازدحم الناس على البخاري حتى امتلأت الدار والسطوح، فلما كان اليوم الثاني أو الثالث من يوم قدومه قام إليه رجل فسأله عن اللفظ بالقرآن، فقال أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من أفعالنا، فوقع بين الناس اختلاف فقال بعضهم إنه قال لفظي بالقرآن مخلوق، وقال آخرون لم يقل، فوقع بينهم في ذلك اختلاف حتى قام بعضهم إلى بعض فاجتمع أهل الدار وأخرجوهم. ذكره مسلم بن الحجاج. وقال ابن عديّ لما ورد نيسابور واجتمع الناس عنده حسده بعض شيوخ الوقت فقال لأصحاب الحديث: إن محمد بن إسماعيل يقول لفظي بالقرآن مخلوق، فلما حضر المجلس قام إليه رجل فقال يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن أمخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه ثلاثًا، فألح عليه فقال البخاري: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة، فشغب الرجل وقال قد قال لفظي بالقرآن مخلوق اهـ. وقد صحّ أن البخاري تبرّأ من هذا الإطلاق فقال: كل من نقل عني أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فقد كذب عليّ وإنما قلت أفعال العباد مخلوقة، أخرج ذلك غنجار في ترجمة البخاري بسند صحيح إلى محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور أنه سمع البخاري يقول ذلك. وقال أبو حامد الشرقي سمعت الذهلي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع لا يجلس إلينا ولا نكلم من يذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل، فانقطع الناس عن البخاري إلا مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة. وبعث مسلم إلى الذهلي جميع ما كان كتب عنه على ظهر حمّال، وقال الذهلي: لا يساكنني محمد بن إسماعيل في البلد فخشي البخاري على نفسه وسافر منها. قال في المصابيح ومن تمام رسوخ البخاري في الورع أنه كان يحلف بعد هذه المحنة أن الحامد عنده والذامّ من الناس سواء، يريد أنه لا يكره ذامّه طبعًا ويجوز أن يكرهه شرعًا، فيقوم بالحق لا بالخط، وتحقّق ذلك من حالته أنه لم يمح اسم الذهلي من جامعه بل أثبت روايته عنه غير أنه لم يوجد في كتابه إلاّ على أحد وجهين، إما أن يقول حدّثنا محمد ويقتصر، وإما أن يقول حدّثنا محمد بن خالد فينسبه إلى جدّ أبيه. وقد سئل عن وجه إجماله دمابقاء ذكره بنسبه المشهور، فأجاب بأن قال لعله لما اقتضى التحقيق عنده أن تبقى روايته عنه خشية أن يكتم علمًا رزقه
الله تعالى على يديه، وعذره في قدحه بالتأويل خشي على الناس أن يقعوا فيه بأنه قد عدّل من جرحه، وذلك يوهم أنه صدّقه على نفسه فيجرّ ذلك إلى البخاري وهنًا، فأخفى اسمه وغطى رسمه وما كتم علمه، والله أعلم بمراده من ذلك. ولو فتحنا باب تعديد مناقبه الجميلة ومآثره الحميدة لخرجنا عن غرض الاختصار.
ولما رجع إلى بخارى نصبت له القباب على فرسخ من البلد واستقبله عامّة أهلها حتى لم يبق مذكور، ونثر عليه الدراهم والدنانير وبقي مدّة يحدّثهم، فأرسل إليه أمير البلد خالد بن محمد الذهليّ نائب الخلافة العباسية يتلطف معه ويسأله أن يأتيه بالصحيح ويحدّثهم به في قصره، فامتنع البخاريّ من ذلك وقال لرسوله: قل له أنا لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كانت له حاجة إلى شيء منه فليحضر إلى مسجدي أو داري فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة أي لا أكتم العلم. فحصلت بينهما وحشة فأمره الأمير بالخروج عن البلد فدعا عليه وكان مجاب الدعوة، فلم يأت شهر حتى ورد أمر الخلافة بأن ينادى على خالد في البلد فنودي على خالد على أتان وحبس إلى أن مات، ولم يبق أحد ممن ساعده إلا ابتلي ببلاء شديد.
ولما خرج البخاري من بخارى كتب إليه أهل سمرقند يخطبونه إلى بلدهم فسار إليهم، فلما كان بخرتنك بفتح الخاء المعجمة وإسكان الراء وفتح الفوقية