من قدم المدينة يومئذٍ من الناس إذا أشرفوا عليها سمعوا لأهلها ضجيجًا، وللبكاء في أرجائها عجيجًا، وحق ذلك لهم ولمن بعدهم، كما روي عن أبي ذؤيب الهذلي قال: بلغنا أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليل فاستشعرنا حزنًا وبت بأطول ليلة لا ينجاب ديجورها ولا يطلع نورها، فظللت أقاسي طولها حتى إذا كان قرب السحر أغفيت فهتف بي هاتف وهو يقول:
خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومعقد الآطام
قبض النبي محمد فعيوننا ... تهمى الدموع عليه بالتسجام
قال: فوثبت من نومي فزعًا فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعدًا الذابح فتفاءلت به ذبحًا يقع في العرب، وعلمت أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد قبض فركبت ناقتي وسرت فقدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج فقلت: مه؟ فقالوا: قبض رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فجئت المسجد فوجدته خاليًا فأتيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فوجدت بابه مرتجًا، وقيل: هو مسجى قد خلا به أهله فقلت: أين الناس؟ فقيل: في سقيفة بني ساعدة فجئتهم فتكلم أبو بكر -رضي الله عنه- فلله ذره من رجل لا يطيل الكلام، ومدّ يده فبايعوه ورجع فرجعت معه فشهدت الصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ودفنه.
(باب أخر ما تكلم به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
4463 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ يُونُسُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ وَهْوَ صَحِيحٌ: «إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُخَيَّرَ» فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى» فَقُلْتُ: إِذًا لاَ يَخْتَارُنَا وَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ وَهْوَ صَحِيحٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى».
وبه قال: (حدّثنا بشر بن محمد) بكسر الموحدة وسكون الشين المعجمة المروزي قال: (حدّثنا) ولأبي ذر أخبرنا (عبد الله) بن المبارك المروزي (قال يونس) بن يزيد الأيلي: (قال الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب: (أخبرني) بالإفراد (سعيد بن المسيب في رجال من أهل العلم) منهم عروة بن الزبير كما في كتاب الرقاق (أن عائشة) -رضي الله عنها- (قالت: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول وهو صحيح): جملة حالية.
(إنه لم يقبض نبيّ حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير) بين الدنيا والآخرة (فلما نزل به) المرض (ورأسه على فخذي) ولأبي ذر عن الكشميهني: في فخذي (غشي عليه ثم أفاق فأشخص) رفع (بصره إلى سقف البيت ثم قال: اللهم) أسألك (الرفيق الأعلى فقلت: إذًا لا يختارنا وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدّثنا به وهو صحيح) وما فهمته عائشة -رضي الله عنها- من قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "اللهم الرفيق الأعلى" إنه خير نظير فهم أبيها -رضي الله عنهما- من قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "إن عبدًا خيّره الله" إن العبد المراد هو النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى بكى (قالت: فكان) ولغير أبي ذر فكانت (آخر كلمة تكلم بها اللهم الرفيق الأعلى).
وعند الحاكم من حديث أنس أن آخر كلمة تكلم بها "جلال ربي الرفيع".
(باب) وقت (وفاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
4464 و 4465 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهم- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا. [الحديث 4464 - طرفه في: 4978].
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا شيبان) بالشين المعجمة المفتوحة بعدها تحتية ساكنة فموحدة مفتوحة ابن عبد الرحمن النحوي (عن يحيى) بن أبي كثير (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف (عن عائشة وابن عباس -رضي الله عنهم- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لبث) بالموحدة المكسورة والمثلثة أي مكث (بمكة عشر سنين) بعد أن فتر الوحي ثلاث سنين كما قاله الشعبي (ينزل عليه القرآن وبالمدينة عشرًا).
وبهذا يزول الإشكال، فإن ظاهره يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام عاش ستين سنة وهو يغاير المروي عن عائشة أنه عاش ثلاثًا وستين، فإذا فرض ما بعد فترة الوحي ومجيء الملك بيا أيها المدثر وضح وزال الإشكال، وهو مبنيّ على ما وقع في تاريخ الإمام أحمد عن الشعبي أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق. وقال السهيلي: جاء في بعض الروايات المسندة أن مدة الفترة سنتان ونصف، وفي رواية أخرى أن مدة الرؤيا ستة أشهر، فمن قال: مكث عشر سنين حذف مدة الرؤيا والفترة ومن قال: ثلاث عشرة سنة أضافها اهـ.
وهذا معارض بما روي عن ابن عباس أن مدة الفترة المذكورة كانت أيامًا، وحينئذٍ فلا يحتج بمرسل الشعبي لا سيما ما عارضه. قال في الفتح: وقد