ثم انتقل المؤلف رحمه الله إلى ما يجب فيه تقديم الخبر بعد أن ذكر ما يمتنع فيه تقديم الخبر؛ فقال: [ونحو عندي درهم ولي وطر ملتزم فيه تقدم الخبر] هذا بيت كامل خلاصته: أنه متى كان المبتدأ نكرة لا مسوغ له إلا التأخير، فيمتنع تقديمه؛ لأن أصل النكرة لا يجوز الابتداء بها، فإذا كان لا يجوز الابتداء بها إلا لتأخيرها ثم قدمناها ارتكبنا الممنوع.
فإن كان نكرة له مسوغ سوى التأخير جاز تقديمه.
مثل: رجل من الكرام عندنا؛ فالمبتدأ نكرة وهو مقدم الآن، والمسوغ لتقديمه أنه وصف.
لكن: عندي درهم؛ درهم: نكرة ليس له مسوغ إلا التأخير؛ فلذلك امتنع تقديمه.
والأمثلة التي ذكرها المؤلف فيما سبق كقوله: عند زيد نمرة، فنمرة نكرة سوغ الابتداء بها التأخير، إذاً يمتنع أن تقدم، فلا يصح أن أقول: نمرة عند زيد.
وإذا قلنا: عندي درهم صحيح، يجوز تقديمه؛ لأنه وصف، فتقول: درهم صحيح عندي.
فالقاعدة الأولى في وجوب تقديم الخبر أن يكون المبتدأ نكرة لا مسوغ له إلا التأخير.
وقوله: (ولي وطر).
(وطر) نكرة، وهو مبتدأ، ولا مسوغ له إلا التأخير.
فالمثالان سواء، إلا أن الأول خبره ظرف، والثاني خبره جار ومجرور.
قال ابن مالك: [كذا إذا عاد عليه مضمر مما به عنه مبيناً يخبر] أي: كذا إذا عاد على الخبر ضمير، (مما) أي: من مبتدأ (به) أي بالخبر (عنه) أي عن المبتدأ، (مبيناً يخبر).
والمعنى: إذا كان في المبتدأ ضمير يعود على الخبر فإنه لا يجوز تقدمه، وذكر بعضهم بيتاً أحسن من هذا فقال: كذا إذا عاد عليه مضمر من مبتدا وما له التصدر فجمع البيتين في بيت واحد مع الوضوح، فقوله: (كذا إذا عاد عليه) أي: على الخبر، (مضمر من مبتدأ) أي: ضمير من المبتدأ، (وما له التصدر) أي: ما له الصدارة فإنه يمتنع تأخيره.
وخلاصة البيت: إذا كان في المبتدأ ضمير يعود على الخبر فإنه يتعين تقديم الخبر.
المثال: في الدار صاحبها، فالمبتدأ (صاحب)، والضمير (ها) يعود على الدار، و (في الدار) هو الخبر المتعين تقديمه؛ لأنك لو قلت: صاحبها في الدار؛ لعاد الضمير على متأخر لفظاً ورتبة وهذا لا يجوز، إذ لابد للضمير من مرجع سابق.
قال ابن مالك: [كذا إذا يستوجب التصديرا كأين من علمته نصيرا] قوله: (كذا إذا يستوجب التصديرا) يعني: يجب تقديم الخبر إذا يستوجب التصديرا.
(إذا) هنا بمعنى (حين) وليست شرطية، والمعنى: حين يكون الخبر مما له صدر الكلام كالاستفهام، مثل: أين زيدٌ؟ فهنا يجب أن نقدم (أين) التي هي الخبر، ولا يجوز أن نقول: زيد أين؟ وإن كان بعض العلماء يستعمل التأخير في مثل هذا، كما في محلى ابن حزم، وكذلك في مؤلفات ابن القيم رحمه الله يقول: ثم كان ماذا؟ يريد: ثم ماذا كان، وهذا حسب القواعد العربية لا يصح؛ لأنه إذا كان الخبر له الصدارة وجب أن يتقدم.
فقولنا: أين زيد؟ الخبر هو (أين)، وله الصدارة؛ لأنه اسم استفهام، فلا يجوز: زيد أين؟ ومن ذلك مثال المؤلف: (أين من علمته نصيراً).
فـ (أين) خبر مقدم، و (مَنْ) مبتدأ مؤخر، و (علمته) فعل وفاعل ومفعول أول، و (نصيراً) مفعول ثان، ومعنى المثال: أين الذي ينصرك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وخبر المحصور قدم أبدا كما لنا إلا اتباع أحمدا] يعني: يجب التقديم إذا حصر الخبر في المبتدأ، مثاله: ما لنا إلا اتباع أحمدا، يعني: محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فما: نافية.
ولنا: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم.
وإلا: أداة حصر.
واتباع: مبتدأ مرفوع بالابتداء وعلامة رفعه ضم آخره.
واتباع: مضاف.
وأحمد: مضاف إليه مجرور بالإضافة، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه اسم لا ينصرف، وعلتا المنع: العلمية ووزن الفعل.
فهنا يجب أن يؤخر المبتدأ؛ لأنه محصور فيه.
والقاعدة: أن المحصور فيه يتأخر، وسواء كان الحصر بإلا أو بغيرها من طرق الحصر، حتى لو قلت: إنما لنا اتباع أحمد وجب تأخير المبتدأ وتقديم الخبر.
انتهى المؤلف رحمه الله من الترتيب بين المبتدأ والخبر، ولنستعيد ما سبق، فالأصل في الخبر التأخير، وقد يجوز تقديم الخبر على المبتدأ، وقد يمتنع تقديم الخبر، وقد يمتنع تقديم المبتدأ وكلها مذكورة في كلام المؤلف رحمه الله تعالى.