قال: [فامنعه حين يستوي الجزءان عرفاً ونكراً عادمي بيان].
فقوله: (فامنعه) يعود الضمير على التقديم، أي: فامنع تقديم الخبر.
وقوله: (حين يستوي الجزءان) أي: إذا استوى الجزءان؛ والمراد بالجزءين: المبتدأ والخبر.
(عرفاً ونكراً) يعني: إذا كانا معرفتين أو نكرتين ولم نعلم أيهما المبتدأ من قرينة حال، أو نحو ذلك، فهنا يمتنع تقديم الخبر ويتعين تقديم المبتدأ؛ لأجل أن نحكم بأن الثاني حكم على الأول بمقتضى الترتيب.
مثال استوائهما عرفاً: إذا قلت: (زيد أخوك) كلاهما معرفة، وهنا تخبر بأن زيداً هو أخوك.
فإذا قلت: أخوك زيد، التبس المعنى، فلا يجوز أن تقدم الخبر هنا؛ لأنك إذا قدمته التبس هل أنت تريد أن تخبر عن زيد بأنه أخوك، أو عن أخيك بأنه زيد، وبينهما فرق، فإذا قلت: (أخوك زيد) فالمعنى أنه لا يوجد أخ لك إلا زيد.
وإذا قلت: زيد أخوك فيحتمل أن يكون هناك أخ ثان وثالث ورابع، فيلتبس المعنى، فحينئذٍ لابد أن يبقى كل جزء في محله.
أما إذا قلت: ابن القيم ابن تيمية، فهذا تركيب صحيح، ولو قلت: ابن تيمية ابن القيم يصلح أيضاً؛ لأننا نعلم أن ابن تيمية خبر مقدم وابن القيم مبتدأ مؤخر؛ لأننا نعرف أن المراد تشبيه ابن القيم بـ ابن تيمية.
ومثل ذلك قول النحويون: أبو يوسف أبو حنيفة.
فالخلاصة: أنه إذا استوى المبتدأ والخبر في المعرفة وجب أن يبقى الخبر في مكانه، ولا يجوز تقديمه إلا إذا كان هناك دليل يبين الخبر.
مثال الاستواء في النكرة قولهم: أفضل من عمرو أفضل من بكر، فإذا كنت تريد أن تقول: كل من كان أفضل من عمر فهو أفضل من بكر، فالترتيب: أفضل من عمرو أفضل من بكر، فلو قدمت لالتبس المعنى وكان كل من كان أفضل من بكر فهو أفضل من عمرو، وحينئذ يلتبس فنقول: إذاً يجب أن يبقى كل واحد في مكانه.
ثم قال: (كذا إذا ما الفعل كان الخبر).
يعني: كذا يمتنع تقديم الخبر إذا كان فعلاً، مثل: زيد قام، فلا يجوز أن أقدم (قام) على أن زيداً مبتدأ مؤخر.
أما لو قدمتها على أن زيداً فاعل فهذا لا بأس به، ولكنه ليس من هذا الباب.
فإذا قال قائل: ما الفرق بين أن أقدم (قام) على أنها خبر المبتدأ، وبين أن أقدم (قام) على أنها فعل وفاعلها زيد؟ نقول: إذا قدمت (قام) على أنها خبر مقدم، فإنها تتحمل ضميراً، لأن (زيد) مبتدأ مؤخر و (قام) فعل ماض وفاعله ضمير مستتر جوازاً تقديره هو، والجملة خبر مبتدأ، فيكون إسناد القيام إلى زيد قد وقع مرتين: أسندنا القيام إليه باعتباره خبراً، وأسندنا القيام إليه باعتباره فاعلاً، وفرق بين أن نسند القيام إليه مرتين أو مرة واحدة.
ومن هنا نعرف أن قول ابن مالك رحمه الله: (كذا إذا ما الفعل كان الخبرا) فيه تسامح ويعترض عليه؛ لأن الفعل لا يكون خبراً وإنما يكون الخبر الجملة الفعلية.
فإذا قلت: الرجلان قاما، فـ (الرجلان) مبتدأ و (قاما) فعل وفاعل، والجملة خبر المبتدأ.
فهل يجوز في هذه الحال أن أقدم قام؟
صلى الله عليه وسلم نعم، يجوز أن أقدم قام؛ لأنه لا يلتبس هنا المبتدأ بالفاعل، فتكون (قاما) فعل وفاعل، و (الرجلان) مبتدأ مؤخر.
أما على لغة أكلوني البراغيث فإنه لا يجوز التقديم؛ لأنهم يعربون (الرجلان) فاعلاً، وحينئذٍ يكون كقولنا: قام زيد فلا يجوز التقديم، لكن المعروف أن المشهور من لغة العرب الأول.
يقول المؤلف: [أو قصد استعماله منحصرا].
أي: إذا قصد الحصر فإنه يجب الترتيب، مثاله: إنما زيد قائم، (زيد) مبتدأ و (قائم) خبر، فزيد حصر في القيام، كأني قلت: (ما زيد إلا قائم).
ولكن ما الفرق بين (إنما زيد قائم) وبين (إنما قائم زيد)؟ والفرق إذا قلت: (إنما زيد قائم) فهذا يقتضي انحصار زيد في حال القيام ولا يمنع مشاركة غيره معه، يعني: وعمرو وخالد وبكر إلى آخره، فلا يمنع قيام غيره، لكن يمنع أن يكون هو قاعداً.
وإذا قلت: (إنما قائم زيد) أو (إنما القائم زيد) معناه: لا قائم غيره.
فأنت إذا قلت: إنما زيد قائم، تريد أن تحصر زيد في القيام فبدأت بالمبتدأ وأخرت الخبر، فلو أردت أن تقدم الخبر في هذه الحال قلنا: لا يجوز؛ لأنك إذا قدمت الخبر اختلف المعنى.
قال: [أو كان مسنداً لذي لام ابتداء].
أي: أو كان الخبر مسنداً لمبتدأ فيه لام الابتداء؛ فإنه لا يجوز أن يقدم الخبر.
مثاله: لزيد قائم، اللام هذه لام الابتداء، فلا يجوز أن أقول: قائم لزيد؛ لأن هذا تناقض، فلام الابتداء يجب أن تكون في صدر الجملة.
(أو لازم الصدر كمن لي منجدا).
وكذلك إذا كان الخبر مسنداً لمبتدأ له الصدارة؛ فإنه لا يجوز تقديمه.
مثاله: (من لي منجدا)، فمَنْ: مبتدأ، ولي: خبره، ومنجداً: حال.
والمعنى: إذا كان المبتدأ له الصدارة فإنه لا يجوز أن يتقدم خبره عليه.
فالضمير في قوله: (كان مسنداً) يعود على الخبر.
وهناك كلمات يجب أن يكون لها الصدارة في الكلام، مثل: الاستفهام أو اسم الشرط أو كم الخبرية أو ما التعجبية.
فإذا كان المبتدأ له الصدارة؛ فإنه لا يجوز تقديم الخبر عليه مثل: من لي؟ فلا يجوز أن أقول: لي من.
ومثال أوضح: من زيد؟ لا يجوز أن أقول: زيد من؛ لأن المبتدأ له الصدارة، وإذا كان له الصدارة، فإنه لا يمكن أن يتقدم الخبر فيكون في محله؛ لأنه يفوت المحل الأصلي وهو الصدارة.
وتنحصر مواضع امتناع تقديم الخبر في خمسة مواضع: الأول: إذا استوى المبتدأ والخبر في التعريف والتنكير.
الثاني: إذا كان الخبر جملة فعلية.
الثالث: إذا كان محصوراً فيه.
الرابع: إذا كان مسنداً لمبتدأ فيه لام الابتداء.
الخامس: إذا كان مسنداً لما له الصدارة.
والفرق بين ما فيه لام الابتداء وما له الصدارة في الرابع والخامس أن ما له الصدارة استحقها بنفسه وبدون واسطة، أما ما فيه لام الابتداء فاستحق الصدارة لدخول لام الابتداء عليه.