كلام العرب ومالا يُعد لم يُثبتوا شيئاً إلا بعد الاستقراء التام، ولا نَفَوْه إلا بعد الاستقراء التام، وذلك كلُّه مع مُزاولة العرب، ومُداخلة كلامها، وفَهْمِ مقاصدها، إلى ما يَنْضَمُّ إلى ذلك من القرائن ومقتضَيات الأحوال، التي لا يقوم غيُرها مقامَها، فبَعدَ هذا كلِّه ساغ لهم أن يقولوا: هذا يُقاس، وهذا لا يُقاس. هذا يقوله مَن لا يقول كذا. وهذا ممَّا استُغني عنه بغيره، إلى غير ذلك من الأحكام العامَّة التي لا يُفْضِي بها إلا من اطَلع على مآخذ العرب، وعَرف مآل مَقاصدها. وهذا أمر مقطوع به عند أرباب هذا الشأن. ومَن فَهم كلام الأئمة في تَوَالِيفهم لم يَخْفَ عليه ما ذُكر.
وإذا ثبت هذا فإنهم لم يَدَّعُوا في (ما أَفَقَرَهُ) وأخواته أنه شاذٌ إلاَّ بعد أن عرفوا بالاستقراء التامِّ أن قائله لا يتكلم ب (فَقُرَ) ونحوه، وإن تكلَّم به ففي شِعْرٍ أو نادِر كلام، ومالا يَنْبَنِي عليه القياس، وإلا لكان نفيهم لذلك نفياً لما لا عِلْمَ لهم بنَفْيه ولا إثباتِه، وهذا لا يصح أن يُنسب إلى عَدْلٍ منهم على حال، كما لا يُنسب مثلُ ذلك إلى فَقِيهٍ أو أُصُوِلىٍّ أو غيرهما.
ومن هنا قال بعض المحقِّقين في مسألةٍ من مسائل التعجُّب: إثباتُ أنهم تعجَّبوا من فِعْلٍ مَا بأن يُسْمَع التعجُّب منه هَيِّنً سَهْل، وأمَّا نَفْي أنهم لا يتعجبَّون منه بأن لم يُسْمَع صَعْبٌ عسِرٌ شاقٌ، إلا على إمامٍ موثوقٍ به، قد فَهم من قرائِن ومجموعِ أحوالٍ وظواهَر تعمُّدَهم لترك ذلك، وما أعزَّ ذلك وأقلَّه. هذا ما قال، وهو واضح.
فمن كان مثلَهم فواجبٌ أن يُقبل قولُه نفياً وإثباتاً، وهم قد قالوا: إن (ما أَفْقَرَهُ) وأخواته شاذٌ، لعد جريَانه على الثلاثي، فلم يقولوا ذلك إلا بعد فَهْمه من العرب كذلك، فإذا سُمع بعد ذلك الثلاثيُّ فالواجبُ على المتأخِّر التوقُّفُ حتى يَدخل من حيثُ دَخل المتقدِّم، فإن وجَد الأمر مُسْتَتِباً مطَّرِداً على خلاف