مثل هذا إما للسهو عن وروده، وإما للبناء على مجرد الدعوى. والوجه الثاني على تسليم صحة ما قاله ينتقض عليه بما ذكره بعد من وجوب حذف عامل المصدر المؤكد لنفسه، والمصدر المؤكد لغيره، فإن كل واحد منهما مؤكدٌ مع أن عامله لازمُ الحذف، نحو قوله: له عليّ ألف درهم اعترافًا، وزيد قائم يقينًا، فاعترافًا ويقينًا مصدران مؤكدان، فدخل له تخت إطلاق قوله: "وحذف عامل المؤكد امتنع" وذلك نقضٌ ظاهر.
والجواب عن الأول من وجهين:
أحدهما: أن تلك القاعدة عند النحاة مسلّمة فقد مرّ من ذلك عن الأخفش والفارسي وابن جني ما فيه غناء، وتبيّن وجه ذلك؛ إذ كان التأكيد راجعًا إلى تكثير اللفظ، والحذف راجعٌ إلى تقليله، وأيضًا فقد قال ابن الباذش: التوكيد تمكين المعنى في النفس عند من خاف من المتكلم أن يضعف في نفسه، فيظن به غير ما قصده، فيطيل بالتوكيد ليقوي من نفس السامع أنّ الأمر على ما ذكره المتكلم، لا على ما توهمه، وهو مستعار من قولك وكَّدت العقد والسرج إذا شددتهما تشديدًا متمكنًا، قال فالتوكيد إذًا نقيض الحذف، لأن المتكلم إنما يحذف ثقة بعلم السامع أن الكلام لا يصِحُّ إلا بتقرير محذوف، وهذا هو المجاز عند العرب، فلا يصحُّ توكيده لتنافي الغرضين، وقال- هو أو غيره- أيضًا: الحقيقة عند النحويين الكلام الذي لا حذف فيه، فإن كان فيه حذف فهو مجاز، والمجاز لا يؤكد؛ لأن التوكيد إطالة، والمجاز اختصار، فتوكيد المجاز نقض الغرض. فهذه نصوص تدلُّ