هذا المشهور عند النُّحَاة، ولكن ابن مالك لم يرتضِ هذه الوجوه الخمسة كلها، وأجاب عنها واحداً تلو الآخر، وأحال على الثاني: وهو أنَّ الفعل المضارع إنَّما أشبه الاسم وأخذ حكمه وهو الإعراب؛ في كونه تعتريه معانٍ مُختلفة تَتَميَّز بالإعراب.
حِينئذٍ لَمَّا كان الفعل تتوارد عليه معانٍ مُختلفة تَتَميَّز بالإعراب أشبه الاسم فَأخَذَ حكمه، ولكون الإعراب أصلاً في الأسماء فرعاً في الأفعال، ولم تكن المُشابَهة مُطْلقَة تَامَّة من كل وجه، وإنَّمَا في مُطلق المُشابَهة صار الإعراب أصلاً في الأسماء فرعاً في الأفعال، يعني: الفعل المضارع.
ووجه ذلك: أنَّ -ما ذكرناه سابقاً- أنَّ اعتوار المعاني على الفعل المضارع هذا صحيح، وهو مقتضٍ للإعراب، إذاً: أُعْرِبَ لتوارد المعاني، لكن لا نَجعَلُه أصلاً فيه، لماذا؟ لأنَّ هذه المعاني ليست كالاسم، يعني: لا يُمَيِّزُها إلا الإعراب، ولكونها تَتَميَّز بغير الإعراب فالتَّصرِيح بالاسم، أو الحرف، أو النَّاصِب، أو الجازم، لإمكان هذا التَّصرِيح جعلناه فرعاً في الفعل المضارع لا أصلاً.
إذاً: المشهور عند النُّحَاة هو التَّعلِيل لِمَا ذكرناه من الوجوه الخمسة، وعند ابن مالك رحمه الله تعالى، أنَّه خاصٌّ بالمعاني المُعْتَوِرَة على الفعل المضارع المختلفة التي يُمَيِّزهَا الإعراب، إذاً: اتفقوا على أنَّ الفعل المضارع معرب، هذا الاتفاق بين البصريين والكوفيين.
أمَّا الكوفيون فالأصل عندهم في الفعل الإعراب فلا يُسأل عن عِلَّته، وأمَّا البصريون فقالوا: إنَّ علة إعراب الفعل المضارع مُشابَهته للاسم في عِدَّة وجوه، والشيء إذا أشبه الشيء شبهاً قوياً أَخَذَ حكمه، ووجوه الشَّبَه ما ذَكرنَاه سابقاً.
الفعل المضارع قد يكون مرفوعاً، وقد يكون منصوباً، وقد يكون مَجزوماً، لأنَّ الإعراب يُقَابِل البناء، وسبق بيان البناء في باب المُعرَب والمبني، وذكره استطراداً في نوني التوكيد:
وَآخِرَ الْمُؤَكَّدِ افْتَحْ كَابْرُزَا ..
حِينئذٍ نقول: بقي علينا الإعراب وهو ثلاثة أنواع:
- إمَّا أن يكون مرفوعاً.
- وإمَّا أن يكون منصوباً.
- وإمَّا أن يكون مجزوماً.
وبدأ بحالة الرَّفْع، لأنَّه لا يحتاج إلى مزيد شرحٍ، ثُمَّ ثَنَّى بالنصب، ثُمَّ ثَلثَّ ببابٍ خاص وهو الجوازم، فقال:
ارْفَعْ مُضَارِعاً إِذَا يُجَرَّدُ ... مِنْ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ كَتَسْعَدُ
(ارْفَعْ مُضَارِعاً) .. (ارْفَعْ) فعل أمر، و (مُضَارِعاً) هذا مفعولٌ به، لَكنَّه لِموصوفٍ محذوف، أي: ارفع فعلاً مضارعاً، (إِذَا يُجَرَّدُ * مِنْ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ) إذا تَجرَّد وتَعرَّى عن الناصب والجازم، يعني: إذا لم يَتَقدَّم عليه عاملٌ لفظي، لأنَّ العامل كما سبق نوعان: عاملٌ لفظي، وعاملٌ معنوي، (العامل اللفظي): ما للسان فيه حَظٌّ، و (العامل المعنوي): ما ليس للسان فيه حَظٌّ.
والذي يُتَصوَّر في الفعل المضارع إمَّا أن يكون منصوباً، وإمَّا أن يكون مجزوماً، وإمَّا أن يكون مرفوعاً، والنَّاصِب مُعيَّن ملفوظ، والجازم مُعيَّن ملفوظ، لأنَّه يظهر: لن يقوم .. لم يقم، إذاً: كُلٌّ منهما ظاهر، إذا انْتفَى هذا أو ذاك تَعيَّنَ الأول وهو الرَّفْع، وهذا كالشأن في الحرف مع الاسم والفعل من حيث العلامات.
نقول: علامة الحرف ما لا يقبل علامة الاسم ولا الفعل .. ما لا يصلح له دليل الاسم ولا دليل الفعل، فحِينئذٍ نَحكم على الحرف بكونه حرفاً إذا لم يَصلُح أن يدخل عليه علامة الاسم، ولا علامة الفعل، هنا إذا لم نجد قبل الفعل علامة النَّصْب الذي هو أداة النَّصْب، أو أداة الجزم، حكمنا عليه بكونه مرفوعاً.
أجمع النَّحوِيُون على أنَّ الفعل المضارع إذا تَجرَّد من النَّاصِب والجازم كان مرفوعاً، يعني: يُرفع إمَّا بحركة، وإمَّا بِحرفٍ .. إمَّا بِحركة ظاهرة أو مُقدَّرَة، أو بحرفٍ ظاهرٍ أو مُقدَّر.
وقد ورد المضارع غير مسبوقٍ ظاهراً بناصبٍ ولا جازم، وهو مجزوم، لَكنَّه يُعتبَر شاذاً:
مُحَمَّدٌ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ ..
(مُحَمَّدٌ تَفْدِ) تَفْدِي، (تَفْدِ نَفْسَكَ) هنا جزَمَه، وليس ثَمَّ جازم، بل هنا تَجرَّد عن النَّاصِب والجازم وقد جزمه.
مُحَمَّدٌ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ ... إِذَا مَا خِفْتَ مِنْ شَيْءٍ تَبَالاَ
ونظيره قول امرئ القيس: