إذاً: (بَاعِد نفسك من الأسد) ثُمَّ حُذِف (بَاعِد) الفعل وفاعله، وقيل: التقدير (أُحذِّرك من الأسد)، فنحو: (إيَّاكَ الأسد) ممتنعٌ على التقدير الأول وهو قول الجمهور، ولذلك قلنا: مذهب سيبويه جواز: (إيَّاكَ الأسد) وهذا يمتنع على مذهب الجمهور، لأن التقدير عندهم (بَاعِد نفسك من الأسد) فَقدَّروا فعلاً يَتعدَّى إلى مفعولٍ واحدٍ بنفسه فحسب، وهذا ينبني عليه في تقدير العامل المحذوف هل هو فعلٌ مُتعدٍ لواحد أو لاثنين .. ينبني عليه تصويب هذه المسألة أو تخطئتها.
مُمتنعٌ على التقدير الأول وهو قول الجمهور، وجائزٌ على الثاني الذي هو (أُحذِّرك من الأسد) ولا خلاف في جواز (إيَّاكَ أن تفعل) لصلاحيته لتقدير (من) لأنه سبق أن (أن) يجوز حذف (مِن) قبلها قياساً:
نَقْلاً وَفِي أَنَّ وَأَنْ يَطَّرِدُ ..
حينئذٍ إذا قيل هنا في هذا التركيب (إيَّاك من أن تفعل) لا شك في أنه جائز، فلو قُدِّرت (من) هذا لا بأس به، فإذا نُصِب المصدر حينئذٍ نقول: نُصِب بنزع الخافض وهو جائز .. مَقِيس.
والحاصل أنه إذا ذُكر المُحذَّر منه بلا عطفٍ فعند الجمهور يتعيَّن جرُّه بـ (من) إذا ذُكِر المُحذَّر منه بلا عطفٍ، يعني: مثل (إيَّاك الأسد) ذُكِر المُحذَّر منه دون عطفٍ، قلنا: هناك قال: (وَدُونَ عَطْفٍ ذَا لإِيَّا انْسُبْ) مَثَّلْنا (إيَّاكَ الأسد) هذا على قول الجمهور لا يَصح، والصحيح: أنه يصح.
ذُكِر المُحذَّر منه بلا عطفٍ، فعند الجمهور يتعيَّن جرُّه بـ (مِن) بناءً على أن العامل عندهم في إيَّاك باعد؛ لأنه لا يَتَعدَّى إلى الثاني بنفسه، وإنما يَتَعدَّى إليه بحرف الجر، وقيل: يَجوز نصبه ولا تتعيَّن (مِن) بناءً على أن العامل عنده في: إيَّاك أُحذِّر ونحوه مِما يَتعدَّى إلى اثنين وهذا أصْوب: أن يُقدَّر العامل المحذوف يَتَعدَّى إلى اثنين بنفسه، وهذا عند ابن الناظم.
وعند ابن مالك: إمَّا أن يُجرَّ بـ (من) أو يُنْصَب بفعلٍ محذوفٍ آخر تقديره: دع، أو نحوه ويجوز إظهاره.
وأمَّا نحو: (إيَّاك أن تفعل) فهذا جائزٌ عند الجميع، لأن الأصل: أن (مِن) يجوز تقديرها قبل (أن)، (إيَّاك من أن تفعل) هذا جائز .. (إيَّاك أن تفعل) فنُقدِّر (من) ثم نقول: المصدر أنْ وما دخلت عليه إذا حذفنا (من) يكون منصوباً على نزع الخافض.
فالمُحذَّر منه (أنْ) المصدرية وصلتها، جاز أن تُحذف (من) سواءً قُدِّر العامل فعلاً يتعدى إلى اثنين أو إلى واحد، لأن الحذف .. حذف حرف الجر قبل (أنْ) جائزٌ في سعة الكلام.
هنا قال: وجب إضمار الناصب، سواءٌ وجِد عطفٌ أم لا، فمثاله مع العطف (إيَّاك والشَّرَّ) (إيَّاك) منصوب بفعل مُضْمَر وجوباً والتقدير (إيَّاك أحذِّرُ). انظر! قدَّره بعد (إيَّاك) لا يجوز تقديره قبل (إيَّاك) لأنه يصير (أُحذِّرُكَ) فصار (إيَّا) متصلاً والأصل: أن يكون منفصلاً.
ومثاله بدون العطف (إيَّاك أن تفعل كذا .. إيَّاك من أن تفعل كذا). انظر! قدَّره هنا مِثَال لما دون عطفٍ، قَدَّره ابن عقيل بِما يِجوز حذف (من) وهو أن يكون (أنْ) المصدرية وصلتها، وأمَّا ما لا يجوز فلم يجعله بناءً على مذهب الجمهور، يعني: (إيَّاك الأسد) هذا المراد.