ولدلالته على ذلك استعيرت للربط في جواب الشرط: من يأتيني فإني أكرمه، إني: جملة وجب دخول الفاء عليها، من يأتيني فإني أكرمه، ولهذا إذا قيل: من دخل داري فله درهم، أفاد استحقاق الدرهم بالدخول، يعني: إن دخل استحق الدرهم، إن لم يدخل لم يستحق الدرهم، إذاً: جعل الدخول علة .. سبباً لاستحقاق الدرهم، ولو حذف الفاء احتمل ذلك واحتمل الإقرار بالدرهم له، إذا قيل: من يأتيني له درهمٌ، هذا صار محتملاً للسببية، ويحتمل الإقرار: من يأتيني له درهم، يعني: له دين عندي درهم، إقرارٌ بالدرهم، ويحتمل السببية لو أسقطت الفاء، من يأتيني له درهمٌ، نقول: هذا ليس جزماً .. قطعاً في أن الدرهم حاصلٌ للإتيان، وإنما يحتمل الإقرار بالدرهم، من يأتيني فله درهمٌ، صار محتملاً. ولو حذف الفاء احتمل ذلك السببية واحتمل الإقرار بالدرهم له.
وقد تخلوا الفاء العاطفة للجمل عن هذا المعنى نحو: ((الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى)) [الأعلى: 2 - 4] خلت عن معنى الترتيب ومعنى السببية لمجرد العطف.
(وَالْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ بِاتِّصَالِ وَثُمَّ) يُقال: ثُمَّ ثُمَّت بالتاء، (وَثُمَّ) هذا مُبتدأ قصد لفظه، (لِلتَّرْتِيبِ) كائنٌ للترتيب، وعرفنا معنى الترتيب: تأخر المعطوف عن المعطوف عليه، (بِانْفِصَالِ) مُقابل لقوله: (بِاتِّصَالِ) يعني: بمهلة، كل ترتيب حصل بين المعطوف والمعطوف عليه مهلةٌ من الزمن قلت أم كثرت يُجاء بـ (ثم)، وإذا كان ليس بينهما مهلة إلا ما يتصور في العقل أو العادة، حينئذٍ يلزم أن نأتي بالفاء، إذاً: كلٌ من (الفاء) و (ثم) تفيد الترتيب، إلا أن الترتيب في (الفاء) مع التعقيب، يعني: بنفي المهلة بين المعطوف والمعطوف عليه، و (ثم) كذلك تفيد الترتيب إلا أنه بمهلةٍ، يعني: تأخرٍ في الزمن، بينهما انفصال: (وَ"ثُمَّ" لِلتَّرْتِيبِ بِانْفِصَالِ).
أي: تدل (الفاء) على تأخر المعطوف عن المعطوف عليه متصلاً به، و (ثم) على تأخره عنه منفصلاً، أي: متراخياً عنه، ولذلك يُقال: (ثم) للتراخي، نحو: جاء زيدٌ فعمروٌ، ومنه قوله تعالى: ((الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى)) [الأعلى:2] هذا محتمل ليس جزماً، وجاء زيدٌ ثم عمروٌ، ومنه قوله تعالى: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ)) [فاطر:11].
وَاخَصُصْ بِفَاءٍ عَطْفَ مَا لَيْسَ صِلَهْ ... عَلَى الَّذِي اسْتَقَرَّ أَنَّهُ الصِّلَهْ
هذا من خصائص الفاء، كما أن الواو هناك تختص أن يعطف بها ما لا يستغنى عنه في الكلام، هنا تختص الفاء لما فيها من معنى السببية أن يعطف بها على جملة الصلة ما لم يكن فيها ضميرٌ يعود على الجملة أو على الموصول، وتختص الفاء بأنها تعطف على الصلة، يعني: بها، ما لا يصلح كونه صلةً.