الأول: (مِن) المراد بها التبعيض، تُحمَل من هنا على التبعيض، وأن المقصود بذلك إخراجَ المظالم؛ لأنها لا تُغفَر إلا برضا أصحابها، ((يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)) [الأحقاف:31]، يعني: بعضَ ذنوبكم، والمغفرة هنا للذنوب التي لم تتعلَّق بالخلق، فتلك لابدّ من رضا أصحابها.

الثاني: أن (مِن) لبيان الجنس، ((يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)) [الأحقاف:31] مثل: ((فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ)) [الحج:30]، والمُبيّن محذوف، يغفر لكم شيئاً من ذنوبكم.

الثالث: أن مَغفرةِ جميع الذنوب بالإيمان خاصٌّ بهذه الأمة، ((يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)) [الأحقاف:31]، وأما مغفرةُ جميعِ الذنوب هذه خاصّة بهذه الأمة، وأما هذه الآية فقيل: إنها في قوم نوح. إذن: ((يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)) [الأحقاف:31] بعض الذنوب هذا ليسَ في هذه الأمة، وهذا مردودٌ بآية الجن: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)، إذن: تُحمَل على أنها إما لبيان الجنس، وإما للتبعيض هذا أولى.

وأجازَ الكوفيون زيادتها في الإيجاب بشرط تنكير مجرورها، يعني: وافقوا على التنكير وخالفوا في اشتراط النفي، فلم يشترطوا النفي وشبهه، ومنه عندهم: قد كان مِن مطرٍ، (مطرٍ) نكرة، وهو فاعل (كان)، قد وُجِد مطرٌ، حصلَ مطر، إذن: (كان) تامة، ومطرٌ: فاعل ودخلت عليه (من) والجملة مُوجَبة، فدلَّ على أنه لا يُشترَط النفي، وإنما يُشترَط التنكير، وأُجِيب: بأن (مِن) تبعيضية أو بيانية لمحذوف، أي: قد كان شيءٌ من مطرٍ، وقوله: أجازَ الكوفيون ليسَ كل الكوفيين، بل بعضهم، أما الكسائي وهشام منهم فيوافقان الأخفش؛ لعدمِ اشتراطِ الشرطين معاً، واختاره الناظم في التسهيل.

إذن: المسألة فيها خلاف، لكن الأكثر على اشتراط الشرطين.

إذن: هذان البيتان أشار بهما إلى المعاني الخمسة التي هي لـ (مِن)، وهذا أشهرُ ما يُذكر.

وبقي هنا مسألة وهي (من) البيانية، مع مجرورها ظرف مستقرّ في محل نصب على الحالية، إذا قلنا: مِن قد تأتي بعد معرفة، حينئذٍ علامتُها اسم موصول مع ضمير: ((فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ)) [الحج:30]، حينئذٍ كيف نُعرِب (مِن)؟ نقول: هذه (من) في محل نصب حال، وإذا جاءت بعد نكرة: ((مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ)) [الكهف:31]، نقول: (من) هنا في محلّ؛ إما رفع أو نصب أو جرّ نعت؛ لا نعربها حالا، إذا جاءت بعد المعرفة فهي حال، وإذا جاءت بعد النكرة فهي نعت، تابع لما قبله في إعرابه إن كان نكرة.

ثم قال رحمه الله:

لِلانِْتِهَا حَتَّى وَلاَمٌ وَإِلَى ... وَمِنْ وَبَاءٌ يُفْهِمَانِ بَدَلاَ

هذه الثلاث التي أشارَ إليها بقوله: حَتَّى وَلاَمٌ وَإِلَى: تدلُّ على الغاية، يعني: تشتركُ في معنى، وهو الغاية في الزمان والمكان، و (إلى) هي أمكن في ذلك من (حتى)، فإلى هي الأعلى؛ هي الأصل، فهي أكثرُ من حتى، ثم حتى ثم اللام، وإن لم يرتبها الناظم. إلى هذه أعلى الدرجات، ثم حتى، ثم اللام، هذه كلُّها تدل على انتهاء الغاية، سواء كانت غاية مكانية أو زمانية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015