إذاً: في الاستثناء المنقطع نقول: عند بني تميم ليس على إطلاقه، بل بشرط أنه هل يمكن تسليط العامل على ما بعد (إلا) أو لا؟ إن أمكن حينئذٍ جاز فيه الإتباع، وإن لم يمكن حينئذٍ وجب فيه النصب كالحجازيين، في الاستثناء المنقطع إن لم يمكن تسليط العامل على المستثنى وجب النصب اتفاقاً، نحو المثال الذي ذكرناه: مَا زَادَ هَذَا المالُ إلاَّ مَا نَقَصَ، إذ لا يُقال: زاد النقص، وكذلك: ما نفع زيدٌ إلا ما ضر، لا يُقال: نفع الضر، وإن أمكن تسليطه فالحجازيون يوجبون النصب، وعليه قراءة السبعة: ((مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ)) [النساء:157] قالوا: الظن ليس من جنس العلم، هذا المشهور، فحينئذٍ إذا كان ليس من جنسه صار منقطعاً، وهنا قد نُصِب: ((مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ)) [النساء:157] اتباع بالنصب على الاستثناء، وهو استثناءٌ منقطع، إذاً نقول: الأصل فيه الجواز.
وتميمٌ ترجحه، وتجيز الإتباع كقول القائل:
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أنِيسُ ... ... إِلاَّ اليَعَافِيرُ وإِلاَّ الْعِيسُ
نقول: هذا استثناءٌ منقطع، لأن الأنيس الأصل فيه .. من الغنم والإبل والبقر، أو البشر؟ البشر، وبلدة لَيْسَ بِهَا أنيسُ يعني: يستأنس به، ولا يستأنس إلا بالبشر، إِلاَّ اليَعَافِيرُ وإِلاَّ الْعِيسُ.
إذاً: وهذا هو المراد بقوله: وَانْصِبْ مَا انْقَطَعَ، أي: انصب الاستثناء المنقطع، إذا وقع بعد نفيٍ أو شبهه عند غير بني تميم، وأما بنو تميم فيجيزون إتباعه، وفي المنقطع (إلا) عند البصريين بمعنى: لكن.
فمعنى البيتين: أن الذي استثني بـ (إلا) ينتصب إن كان الكلام موجباً ووقع بعد تمامه، وقد نبه على هذا التقييد بذكره حكم النفي بعد ذلك، وإطلاق كلامه يدل على أنه ينتصب سواءٌ كان متصلاً أو منقطعاً، متقدماً أو متأخراً، وإن كان غير موجب انْتُخِبْ، أي: اختيِر إتباع ما اتصل، ووجب نصب ما انقطع عند غير بني تميم، وأما بنو تميم فيجيزون إتباع المنقطع.
وَغَيْرُ نَصْبِ سَابِقٍ فِي النَّفْيِ قَدْ ... يَأْتِي وَلَكِنْ نَصْبَهُ اخْتَرْ إِنْ وَرَدْ
هذا فيما إذا تقدم المس تثنى على المستثنى منه، يعني قيل: ما قام إلا زيداً القومُ، قدمت المستثنى على المستثنى منه، سبق مَا اسْتَثْنَتِ الاَّ مَعْ تَمَامٍ يَنْتَصِبْ، قلنا: إذا كان موجباً تقدم أو تأخر وجب النصب.
إذاً: الكلام هنا قال: وَغَيْرُ نَصْبٍ، إذاً: غير النصب وهو: الإتباع؛ لأنه إما إتباع وإما نصب، إما نصب على الاستثناء، وإما إتباع، غَيْرُ نَصْبٍ إذاً: المراد به الإتباع، وهذا لا يأتي في الكلام التام الموجب، وإنما يكون في الكلام التام المنفي، ولذلك قال: وَغَيْرُ نَصْبِ سَابِقٍ فِي النَّفْيِ .. فِي النَّفْيِ: قيده، ولم يقل: وشبهه اتكالاً على ما سبق؛ لأنه قال: وَبَعْدَ نَفْيٍ أَوْ كَنَفْيٍ، فحينئذٍ نقول: شبه النفي لم يُعِدْه هنا اتكالاً على ما سبق.
وَغَيْرُ نَصْبِ سَابِقٍ، غَيْرُ: هذا مبتدأ وهو مضاف، ونَصْبِ: مضاف إليه، ونَصْبِ: مضاف، وسَابِقٍ: بالتنوين مضاف إليه، فِي متعلق بقوله: يَأْتِي.