إذاً لا بد من القول بأن أَطْلُبُ هنا لا يطلب قَلِيلاً، وإنما هو طالبٌ لمفعولٍ محذوف: ولم أطلب الملك، يعني: الملك هو أعلى معيشةٍ، هذا الذي يطلبه في الدنيا، وأما أدنى معيشة فهو قليل المال هذا، فحينئذٍ لا تنافي بينهما:
وَلَو أَنَّ مَا أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي قَلِيلٌ مِن الَمَالِ .. ولم أطلب الملك، إذاً لا تنافي بينهما، لكن لو جعلنا الأول منفي والثاني مثبت كفاني قليل من المال، ثم نقول: لم أطلب قليلاً من المال، نقول هذا بينهم تعارض.
الحاصل: أنه ليس كل عاملين متقدمين يكون بعدهما اسم ظاهر لا بد من صحة المعنى بتسليط العاملين على الاسم الظاهر، يعني لا نكون ظاهرية، كلما رأينا عاملين واسماً ظاهراً قلنا هذا من باب التنازع، لا انظر للمعنى؛ لأنه لو تسلط العاملان على الاسم الظاهر قد يحصل تناقض وتعارض .. تضارب، فإذا كان كذلك حينئذٍ لا بد من فك التنازع، فيُجعل لأحدهما مفعولاً محذوفاً، ويعلَّق المذكور بأحدهما، فـ (كَفَانِي قَلِيلٌ) قَلِيلٌ فاعل كَفَانِي، وأَطْلُبُ لم يطلب (قَلِيلٌ)، وإنما طلب مفعولاً محذوفاً.
ويشترط في العاملين أن يكونا متقدمين على المعمول، هذا شرط صحة باب التنازع، فإن تأخر أو توسط أحدهما، أو توسط الاسم الظاهر بطل، يعني: خرج عن باب التنازع.
فإن تقدم المعمول؛ فإما أن يكون مرفوعاً وإما أن يكون منصوباً، فإن كان مرفوعاً: زيدٌ قام وقعد؛ تقدم اسم ظاهر وتأخر عاملان، كلٌ منهما يطلب فاعلاً، هل يصح أن نجعل قام وقعد مسلطين على زيد المتقدم؟
الجواب: لا، وحينئذٍ نقول: زيدٌ مبتدأ، وقام فعل ماضي، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على زيد، والجملة خبر، وقعد فعلٌ ماضي، وفاعله مستتر، والجملة معطوفة على ما سبق، ليس من باب التنازع، فنرفع الأول على أنه مبتدأ، ثم نُعرب الفعل على أصله، ونقدر فيه الضمير.
فلا عمل لأحد العاملين فيه، بل كل واحد منهما عاملٌ في ضميره، وإن كان منصوباً: زيداً ضربت وأهنت، حينئذٍ يكون (زيداً) مفعولا به لضربت –الأول-، ونقدر للثاني محذوفاً، ولا يكون من باب التنازع، زيدا ًضربت وأهنت، إذاً صح أن يجعل الأول عاملاً في الاسم المتقدم، لماذا؟
لأنه يصح أن يتقدم المفعول به على عامله، لو قلت هكذا ابتداءً: زيداً ضربت صح؟ صح، حينئذٍ نقول: تقدم المفعول به على عامله، فحينئذٍ إذا جاء الاسم منصوباً، ثم جاء بعده عاملان؛ جعلناه معمولاً للعامل الأول، وقدرنا للثاني، زيداً ضربتُ وأهنت؛ فالعامل فيه هو أول العاملين.
وأما إذا توسط: ضربتُ زيداً وأهنتُ، زيداً يكون لأهنت أو لضربت؟
ضربتُ من باب أولى؛ لأننا إذا جعلناه له في قولنا: زيداً ضربتُ وأهنتُ؛ فمن بابٍ أولى أذا تأخر، فضربتُ زيداً هذه جملة، وأهنت يعني أهنت زيداً، أهنته تقدر له ضمير، فيجوز حذفه.
فهو معمول للسابق عليه منهما، وللمتأخر عنه معمول محذوف يدل عليه المذكور.
إذاً (إِنْ عَامِلاَنِ) عرفنا ما يتعلق بالعاملين، المهم أن نعرف أنه فعل وفعل أو اسم واسم فيه معنى الفعل، أو فعلٌ متصرف واسمٌ فيه شبه الفعل، هذا أهم شيء.
ثم أن يكونا متقدمين لا متوسط أحدهما ولا متأخرين، فإن كانا كذلك بطل باب التنازع.