بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [فالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين هو: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك، فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهره تأويلاً على اصطلاح هؤلاء؛ وظنوا أن مراد الله تعالى بلفظ التأويل ذلك، وأن للنصوص تأويلاً يخالف مدلولها لا يعلمه إلا الله، ولا يعلمه المتأولون.
ثم كثير من هؤلاء يقولون: تجرى على ظاهرها، فظاهرها مراد مع قولهم: إن لها تأويلاً بهذا المعنى لا يعلمه إلا الله، وهذا تناقض وقع فيه كثير من هؤلاء المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم.
والمعنى الثاني: أن التأويل هو تفسير الكلام -سواء وافق ظاهره أو لم يوافقه- وهذا هو التأويل في اصطلاح جمهور المفسرين وغيرهم، وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم، وهو موافق لوقف من وقف من السلف عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] ، كما نقل ذلك عن ابن عباس ومجاهد ومحمد بن جعفر بن الزبير ومحمد بن إسحاق وابن قتيبة وغيرهم، وكلا القولين حق باعتبار كما قد بسطناه في موضع آخر؛ ولهذا نقل عن ابن عباس هذا وهذا، وكلاهما حق.
والمعنى الثالث: أن التأويل هو الحقيقة التي يئول الكلام إليها وإن وافقت ظاهره، فتأويل ما أخبر الله به في الجنة من الأكل والشرب واللباس والنكاح وقيام الساعة وغير ذلك؛ هو الحقائق الموجودة أنفسها، لا ما يتصور من معانيها في الأذهان، ويعبر عنه باللسان، وهذا هو التأويل في لغة القرآن كما قال تعالى عن يوسف أنه قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف:100] ، وقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53] ، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] ، وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله.
وتأويل الصفات هو الحقيقة التي انفرد الله تعالى بعلمها، وهو الكيف المجهول، فالاستواء معلوم يعلم معناه، ويفسر ويترجم بلغة أخرى، وهو من التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم، وأما كيفية ذلك الاستواء فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى] .
قد تقدم الكلام على أول هذا المقطع المترابط في بيان معنى التأويل، والذي ساق الشيخ رحمه الله إلى ذكر هذا هو أن الذين أولوا في صفات الله، والذين قالوا: إن صفات الله لا يعلم معناها؛ اعتمدوا واستدلوا على باطلهم بقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} فذكر الشيخ رحمه الله الخلاف في الوقف في هذه الآية، وأن كلا القولين في الآية حق، ولكن المعنى في كل قراءة يختلف عن القراءة الأخرى، فقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} إذا وقف على هذا فيكون معناه: لا يعلم حقيقة ما يئول إليه إلا الله سبحانه وتعالى، كما ذكره الشيخ رحمه الله في بيان هذا المعنى، وسيأتي المزيد من التفصيل في المقطع القادم.
وأما الوقف الثاني: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] فعلى هذا الوقف يكون معنى الآية: ما يعلمه إلا الله والراسخون في العلم يعلمونه، وتميزوا عن غيرهم برسوخهم في العلم، فعلموا ما جهله غيرهم، فيكون هذا من المتشابه الإضافي، يعني: المتشابه النسبي الذي يعلمه أناس ولا يعلمه آخرون، فيعلمه الراسخون في العلم ولا يعلمه غيرهم.