قال: (الرابع: أن يبين أن العقل الصريح يوافق ما جاءت به النصوص) .
العقل الصريح السليم يوافق ما جاءت به النصوص الصحيحة الثابتة، وهذه قاعدة ذهبية تحل إشكالات كثيرة، فالعقل الصريح السليم لا يمكن أن يخالف نصاً صحيحاً ثابتاً؛ لأن الشريعة لم تأت بما تحيله العقول، بل جاءت بما تحار فيه العقول، وقد تعجز عن إدراكه إدراكاً تاماً، ولهذا فكل ما تبادر لك من النصوص الصحيحة أنه يخالف العقل الصريح فاعلم أنك إنما أتيت من قبل أمرين: الأمر الأول: فساد في العقل، بأن يكون العقل الذي اعتمدته -في مصادمة النصوص- عقلاً فاسداً، إما في أصله أو في مقدماته، أو أن يكون النص الوارد غير صحيح، فهذان تبريران أو تعليلان للمصادمة التي قد ترد بين العقل والنص.
فإما أن يكون سبب ذلك فساداً في العقل أو ضعفاً في النصوص، فإذا اجتمع عقل صريح ونص صحيح فلا يمكن أن تكون معارضة، وقد قرر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله تقريراً بيناً جلياً في كتابه المبارك: (درء تعارض العقل والنقل) ، وهو كتاب جليل فيه تقعيد لأصول أهل السنة والجماعة في باب أصول الدين والرد على المبتدعة وقواعدهم في هذا الباب.
قال: (وإن كان في النصوص من التفصيل ما يعجز العقل عن درك التفصيل وإنما يعلمه مجملاً) وهذا ما ذكرناه قريباً من أن الشريعة قد تأتي بما تحار فيه العقول وتعجز عن إدراكه إدراكاً تاماً، لكن لا يمكن أن تأتي الشريعة بما تحيله العقول وتمنعه، (إلى غير ذلك من الوجوه) في إبطال طريقتهم.
(على أن الأساطين من هؤلاء) أي: كبراء القوم وعظماؤهم ومنظروهم (معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية) ، وذلك أن العقل لا يدرك الغيبيات إدراكاً تاماً، فقد يدركها في الجملة لكن لا يدرك تفاصيل هذه المغيبات، (فإذا كان هكذا فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه) يعني: على ما جاءت به الرسل من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل, فالواجب الوقوف على ما جاءوا به من غير زيادة ولا نقصان، وأن من دخل في ذلك بعقله فقد ضل ضلالاً مبيناً.