قرر المؤلف رحمه الله في هذا المقطع بطلان اعتماد العقل في باب أسماء الله وصفاته، بل وفي سائر أبواب الاعتقاد كما سيذكر ذلك في نهاية كلامه، وبطلان اعتماد العقل في باب الإخبار عن الله عز وجل بين من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن المعتمدين على عقولهم في باب الأسماء والصفات في أمر مريج وفي أمر مضطرب، فمن أدلة بطلان اعتماد العقل في باب الأسماء والصفات: الاضطراب والتناقض، والتناقض في الشيء دليل على فساده، ولذلك ذكر الشيخ رحمه الله أنهم في أمر مريج، ثم بين اضطرابهم وتناقضهم، وضرب لذلك أمثله من البدع عند أهل الكلام: (فإن من ينكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها -يعني: يمنعها- وأنه مضطر فيها إلى التأويل) إلى أن النصوص التي جاء فيها إثبات الرؤية تؤول، ثم يختلفون في تأويلها، ومن يحيل أن لله علماً وقدرة، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: (إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل) ، كذلك أهل البدع من المعتزلة وغيرهم ممن ينفي هذه الصفات يقولون: إن الذي حملهم على ذلك أن العقل أحال أن يوصف الله بهذه الصفات.
والشيخ رحمه الله تدرج فبدأ بالرؤية التي ينكرها مثبتة الصفات كالأشاعرة والماتردية والكلابية ومن سار على طريقهم، ثم ذكر بدعة الذين ينفون الصفات بالكلية كالمعتزلة والجهمية، ثم أتى ببدعة مغلظة وهي بدعة الفلاسفة الذين ينكرون البعث.
قال: (بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد) يعني: من ينكر أن الأجساد تحشر يوم القيامة وتبعث، (والأكل والشرب الحقيقي في الجنة، يزعم أن العقل أحال ذلك!) وكل هذه من أقوال ابن سينا وهي من أقوال الفلاسفة الذين ينكرون البعث ويقولون: ما أخبرت به الرسل مما يقع في الآخرة إنما هي خيالات؛ ليحملوا الناس على الطاعة ويزجروهم عن المعصية، والذي حمل أولئك على هذا قولهم: إن العقل أحال ذلك وهم مضطرون إلى التأويل (ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش: يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل) .
ثم قال: (ويكفيك دليلا على فساد قول هؤلاء) وهم الذين اعتمدوا العقل في باب الأسماء والصفات، فأثبتوا ما أثبته العقل؛ ونفوا ما نفاه العقل؛ فيكفيك دليلاً على فساد قولهم: (أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل) فليس هناك قاعدة ثابتة يرجع إليها.
(بل منهم من يدعي أن العقل جوز أو أوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله) فبعضهم يقول: العقل يوجب أن يوصف الله بكذا، ومقابله يقول: العقل يمنع ويحيل أن يوصف الله بكذا، ويأتي ثالث ويقول: إن العقل لا يوجب ولا يحيل، بل العقل يجيز أن يوصف الله بكذا، فعقول الناس متفاوتة، بل الواحد منهم -كما ذكر ذلك بعض أهل العلم- تجده في الكتاب الواحد من كتبه يذكر في موضع أن العقل يوجب أن يوصف الله بكذا، وفي نفس الكتاب يقول: يمتنع عقلاً أن يوصف الله بكذا، فهذا التناقض يدل دلالة واضحة على أنه لا يعتمد العقل فيما يجب لله من الكمال والتنزيه إثباتاً ولا نفياً، بل يرجع في ذلك إلى السمع، ويستضاء بالعقل في فهم ما ورد به السمع، أما أن يستقل العقل فيما يتعلق بالله عز وجل إثباتاً ونفياً، فهذا ليس بصحيح.
ثم قال الشيخ رحمه الله بعد أن بين هذا الوجه: (فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة؟!) فأي العقول التي تحتمل أن يوزن بها كلام الله وكلام رسوله، فقوله: (فيا ليت شعري) أي: ليتني أعلم أي العقول نرجع إليها في فهم كلام الله وكلام رسوله، (فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء وعقولهم) لا شك أن هذا من الضلال المبين والخطأ العظيم.
هذا الوجه الأول من الأوجه التي يبطل بها اعتماد العقل في باب الأسماء والصفات.
الوجه الثاني: أن اعتماد العقل في هذا الباب مخالف لطريقة السلف، فالسلف رحمهم الله اقتصروا في هذا الباب على ما جاء عن الله وعن رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل.
الوجه الثالث من الأوجه التي تبطل اعتماد العقل في باب الأسماء والصفات: أنه من المحال أن يستقل العقل بمعرفة ما يتعلق بالله عز وجل، فالعقل يحيل الاعتماد على العقل في معرفة ما يجب لله عز وجل من الأسماء والصفات.
إذاً: الوجه الثالث هو إحالة العقل أن يكون مستنداً ومعتمداً في معرفة ما يجب لله عز وجل وما يجوز له وما يمتنع عليه؛ وذلك أن باب الأسماء والصفات من الأمور الغيبية التي لا تدرك بالعقل، فلا يستقل العقل بمعرفة ما يجب لله عز وجل وما يمتنع عليه.
وما يجوز عليه، فهذه ثلاثة أدلة تدل على بطلان اعتماد العقل في باب الأسماء والصفات.
ثم بعد أن فرغ الشيخ رحمه الله من ذكر أدلة بطلان اعتماد العقل في باب الأسماء والصفات ذكر أن من أدلة البطلان: التناقض الذي وقع فيه المتكلمون.