الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، أما بعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى رحمة واسعة: [وكذلك قال أبو المعالي الجويني في كتابه (الرسالة النظامية) : اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب.
فقال: والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقيدة: اتباع سلف الأمة، والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الأمة، وهو حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة.
وقد درج صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محتوماً؛ لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل؛ كان ذلك هو الوجه المتبع، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الله عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب تعالى، فليجر آية الاستواء والمجيء، وقوله {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن:27] ، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] ، وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه] .
هذا آخر نقل ينقله الشيخ رحمه الله من النقول التي حشدها لتقرير مذهب أهل السنة والجماعة، وبيان أن طريقة أهل السنة لازمة حتى للمتكلمين، فإن كثيراً منهم قال فيما كتب وألف كلاماً يوافق فيه الصواب الذي جاء عن السلف الصالح رحمهم الله.
والنقل هنا عن أبي المعالي الجويني، وهو من أئمة الأشاعرة الكبار، إلا أنه تميز عن سائر الأشاعرة بأنه خطا بالمذهب الأشعري خطوات غير قليلة نحو الاعتزال، فهو من أئمتهم الذين نزعوا إلى الطريقة الاعتزالية، والذي حمله على ذلك تناقض الطريقة الأشعرية واضطرابها.
والجويني كان في أول أمره مؤولاً، أي: محرفاً على طريقة المتكلمين، ثم إنه بعد أن رأى أن طريقته لا توصل إلى معرفة بالله سبحانه وتعالى، ولا إلى علم بما أخبر به سبحانه وتعالى عن نفسه؛ انصرف عن هذه الطريقة إلى ما اعتقده أنه طريق السلف وهو التفويض، فترك التأويل إلى التفويض، ولذلك قال: (وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل) ومقصوده بالتأويل: التحريف الذي عليه المتكلمون (وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب) ، وهذا غلط منه كما غلط غيره في فهم منهج السلف، حيث ظن أن منهج السلف التفويض، وأن طريقهم عدم التعرض لمعاني هذه الأسماء والصفات، وقد تقدم إبطال هذا الطريق وإبطال هذا الأمر، وبيان أن أهل السنة والجماعة يفسرون كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي تحتمله اللغة، والوجه الظاهر منها، والذي يفهمه أهل اللسان، ومع ذلك فهم فيما يثبتونه لله سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات لا يحرفون ولا يعطلون ولا يمثلون ولا يكيفون، بل يثبتون كل ذلك على قاعدتهم التي أخذوها من كتاب الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] .
ثم قال: (والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقيدة: اتباع سلف الأمة، والدليل السمعي القاطع في ذلك) أي: في صحة هذا وهو وجوب اتباع السلف؛ (إجماع الأمة، وهو حجة متبعة) ، فالأمة أجمعت على أن أفضل الطرق وأن خير السبل في جميع الأبواب العلمية والعملية الاعتقادية؛ هو طريق السلف، فلما كان الإجماع على ذلك، وكان طريقهم في باب أسماء الله وصفاته تختلف عن طريق المؤولين والمتكلمين، وجب الرجوع إليها.
ثم قال: (وهم صفوة الإسلام) ذكر بعد ذلك دليلاً عقلياً على صحة طريقهم الذي ثبت، وهو أنهم يثبتون ما أثبتوه لله عز وجل من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، قال: (درج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها) ، والمقصود الصحيح من هذا الكلام أي: ترك تحريفها، وإلا فهم فسروا آيات الصفات وبينوا معانيها.
قال: (وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظه) ، ولا شك أن من ظن غير هذا في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي التابعين وتابعيهم رضي الله عنهم ورحمهم الله؛ فقد كذب قوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) (وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محكوماً؛ لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة) ؛ لأن العلم بالصفات هو أصل العلوم، إذ إنه علم بالله سبحانه وتعالى، وإنما جاءت الرسل وبعثت، وأنزلت الكتب لتعريف الخلق بربهم، فإذا كان الصحابة لم يهتموا بهذا -مع شدة الحاجة إليه- كان في ذلك اتهاماً لهم، بل لو كان الطريق الذي سلكه المتكلمون هو الطريق الصحيح؛ لكان اهتمام السلف في بيان صحة هذا الطريق وتقريره أعظم من اهتمامهم بأي أمر آخر.
والمتكلمون يعتذرون للصحابة والتابعين عن سلوك طريق المتأخرين، بأنهم كانوا مشغولين بتبليغ الرسالة والدعوة إليها، والجهاد في سبيل الله وما إلى ذلك، فانشغلوا عن الطرق الكلامية والحجج العقلية.
وهذا كذب! لأنهم إنما انشغلوا بهذا لدعوة الناس إلى ما جاء به الكتاب والسنة، والكتاب والسنة قد جاءا بما اعتقده الصحابة رضي الله عنهم، ودعوا إليه من إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
ثم قال رحمه الله: (وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل، كان ذلك هو الوجه المتبع، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين) يعني: عن كلام المحدثين في باب أسماء الله وصفاته، وغير ذلك من الأبواب الغيبية.
قال: (ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب تعالى) والصواب في هذا أن يقال: وأن يحمل المشكلات على المحكمات، كما هو منهج الراسخين في العلم، الذين أثنى الله سبحانه وتعالى على طريقهم وسبيلهم.
قال: (فليجر آية الاستواء والمجيء، وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} ، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ، وما صح من أخبار الرسول؛ كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه) ، يعني: ما ذكره من اعتقاده التفويض بمنهج السلف، ونحن نقول على ما سبق تقريره من القاعدة الكلية في هذا الباب؛ إن الحق هو إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وأن يعتقد أن كل كمال فالله به أولى، وأنه لا يلزم على كلام الله ولا على كلام رسوله صلى الله عليه وسلم باطل، إذ لو لزم على ذلك باطل لما صدق قوله جل وعلا: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1] ، ولما صدق قوله سبحانه وتعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] .
المهم أن أهل الكلام أقروا فيما كتبوه وفي آخر أمرهم وبعد تجوالهم في الطرق الكلامية، بسلامة طريق السلف، وأنه هو الطريق الموصل إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، وهذا من فضل الله ونعمته، فالحمد لله الذي هدانا لما أضلهم عنه.