مواصلة كلام الحارث المحاسبي في عدم النسخ في آيات الصفات ونحوها

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

أما بعد: فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15] ليس معناه أن يحدث له سمعاً، ولا تكلف بسمع ما كان من قولهم، وقد ذهب قوم من أهل السنة أن لله استماعاً في ذاته، فذهبوا إلى أن ما يعقل من أنه يحدث منهم علم سمع لما كان من قول؛ لأن المخلوق إذا سمع حدث له عقل فهم عما أدركته أذنه من الصوت.

وكذلك قوله: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:105] لا يحدث بصراً محدثاً في ذاته، وإنما يحدث الشيء فيراه مكوناً، كما لم يزل يعلمه قبل كونه.

إلى أن قال: وكذلك قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] ، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] ، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] .

وقال: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] ، وقال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] ، وقال لعيسى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران:55] وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف:206] ، وذكر الآلهة: أن لو كان آلهة لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً حيث هو، فقال: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:42] أي: طلبه، وقال: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] قال أبو عبد الله: فلن ينسخ ذلك لهذا أبداً.

كذلك قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ، وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3] ، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] الآية، فليس هذا بناسخ لهذا، ولا هذا ضد لذلك] .

هذا النقل عن الحارث المحاسبي له صلة بما تقدم من النقل السابق الذي بدأه رحمه الله بقوله: (وأن النسخ لا يجوز في الأخبار) وسبب سياق هذه القاعدة أن بعض المشبهين يتمسكون ببعض النصوص التي يضربون بعضها ببعض، ويحتجون بها على إبطال ما أثبته الله تعالى لنفسه من الصفات.

فذكر رحمه الله قوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15] وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} ثم ذكر آيات العلو التي يثبت بها علو الله سبحانه وتعالى، وذكر ما قد يشكل عليها من الآيات التي قد يفهم منها أن الله سبحانه وتعالى غير مستوٍ على عرشه، كقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ} ، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} التي يستدل بها من يستدل على أنه سبحانه وتعالى في كل مكان.

ثم بين أن هذه الآيات ليست بناسخة للتي فيها إثبات العلو، أو فيها إثبات أنه سبحانه وتعالى بصير وأنه سميع.

فإذا كانت ليست بناسخة فيجب أن تفهم على الوجه الذي وردت به، فصفة السمع والبصر صفات ذاتية له سبحانه وتعالى، فهو ما زال سميعاً بصيراً أزلاً وأبداً، وهو سبحانه وتعالى السميع البصير في الأزل والأبد، وهو لا ينفك عن هذه الصفة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015