فَقَالَ: ... ، وَلِأَنَّهُ «قَالَ لِأَصْحَابِهِ: " مَنْ كَانَ أَهْدَى فَلَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ» وَهَذَا نَهْيٌ عَنِ التَّحَلُّلِ بِالتَّقْصِيرِ وَغَيْرِهِ ; فَإِنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَكَيْفَ يَجُوزُ؟!
وَأَمَرَ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ أَنْ يَتَحَلَّلُوا بِالتَّقْصِيرِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ - فِي التَّقْصِيرِ - بَعْدَ إِذْنِهِ فِيهِ لِمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ دُونَ مَنْ سَاقَ؟ وَقَالَ عَنْ نَفْسِهِ: " «لَا يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» " وَهَذَا نَصٌّ فِي اجْتِنَابِهِ كُلَّ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ التَّقْصِيرِ وَغَيْرِهِ.
ثُمَّ هُمْ إِنَّمَا أَنْكَرُوا أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْصِيرِ وَلَمْ يُقَصِّرْ، فَلَوْ كَانَ قَدْ قَصَّرَ زَالَ هَذَا، ثُمَّ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ خَطَبَهُمْ بِهَذَا وَأَمَرَهُمْ بِهِ - وَهُوَ عَلَى الْمَرْوَةِ - وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَلَوْ كَانَ قَدْ قَصَّرَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَشْهَدِ الْعَظِيمِ، وَكَيْفَ يُقَصِّرُ وَلَمْ يَأْمُرْ غَيْرَهُ مِمَّنْ سَاقَ الْهَدْيَ بِالتَّقْصِيرِ؟!
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحَادِيثَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَحْوَالَهَا كَانَ كَالْجَازِمِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحِلَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ.
فَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ فَحَدِيثٌ شَاذٌّ، وَقَدْ طَعَنَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا كَمَا أَخْبَرَ قَيْسٌ: فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَّرَ.
وَيُشْبِهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَصَّرَ مِنْ رَأْسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ، فَإِنَّهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ بَعْدُ.
وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَّصِلَةُ إِنَّمَا فِيهَا أَنَّهُ قَصَّرَ مِنْ رَأْسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَرْوَةِ بِمِشْقَصٍ، وَكَانَتْ عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ لَيْلًا، فَانْفَرَدَ مُعَاوِيَةُ بِعِلْمِ هَذَا.